تؤكد قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمركية الأخيرة أن الولايات المتحدة تتجه نحو إنهاء عصر العولمة الذي قادته لعقود. فبفرض أكبر مجموعة من الرسوم حتى الآن، لم تعد أميركا حامية النظام التجاري العالمي، بل أصبحت تتراجع عنه لصالح سياسات أكثر حمائية.
وشملت الإجراءات الجديدة فرض ضريبة بنسبة 10% على جميع الواردات الأجنبية، إلى جانب رسوم "متبادلة" تصل إلى 25% على بعض المنتجات، ما يعيد تشكيل الاقتصاد العالمي بالكامل.
تعكس هذه السياسات تحولاً كبيراً في أنماط الاستثمار العالمي، حيث بدأت بعض الشركات في إعادة تقييم مواقع التصنيع. دول مثل فيتنام وكوريا الجنوبية واليابان، التي استفادت لسنوات من العولمة، تواجه الآن تراجعاً في الاستثمارات الأميركية لصالح الداخل الأميركي.
وبحسب «وول ستريت جورنال»، يرى أندريه سابير، أستاذ الاقتصاد في جامعة بروكسل، أن الولايات المتحدة، التي كانت رمز العولمة، بدأت تتراجع عن هذا الدور. وبالفعل، أعلنت شركات مثل «أبل» و"هيونداي" عن خطط لتوسيع عملياتها داخل أميركا، لكن إعادة هيكلة سلاسل التوريد تظل مكلفة ومعقدة. ويقول ديريك كام، الخبير الاقتصادي في «مورغان ستانلي»: «الانتقال إلى نمط جديد من التصنيع لن يكون سريعاً أو سهلاً».
تهدف هذه السياسة إلى تعزيز الصناعة الأميركية، لكنها قد تؤدي أيضاً إلى تباطؤ الاستثمارات نتيجة عدم اليقين. اللافت أن ترامب أعفى المكسيك وكندا من الرسوم الجديدة، حيث بقيت السلع المتوافقة مع اتفاقية التجارة الحرة معفاة، لكنه أبقى على رسوم بنسبة 25% على صادرات أخرى.
أما الصين، فتتحمل النصيب الأكبر من هذه الإجراءات، مع فرض رسوم إضافية بنسبة 34% على بعض وارداتها، إلى جانب ضريبة 20% بسبب تجارة الفنتانيل. وسجلت بكين فائضاً تجارياً قياسياً بلغ تريليون دولار في 2023، ما زاد من إصرار ترامب على تشديد القيود.
نتيجة لهذه التوترات، بدأت الشركات العالمية في البحث عن بدائل. فبينما بدأت «أبل» تصنيع بعض أجهزة "آيفون" في الهند، توسعت الشركات الصينية في فيتنام والمكسيك لتجنب التعريفات الأميركية، ما زاد العجز التجاري الأميركي مع هذه الدول.
في المقابل، استغلت بعض الشركات الفرصة لزيادة استثماراتها في أميركا. أعلنت «سيمنز» عن استثمار 10 مليارات دولار تشمل مصانع جديدة في تكساس وكاليفورنيا، بينما ضخت «تايوان لصناعة أشباه الموصلات» (TSMC) أكثر من 100 مليار دولار لإنشاء مصانع أميركية. وبالرغم من فرض ترامب رسوماً بنسبة 32% على تايوان، استثنى منها أشباه الموصلات، مؤكداً أهمية تصنيع هذه المكونات محلياً.
على الرغم من الاستثمارات الجديدة، تظهر بيانات الاحتياطي الفيدرالي أن حالة عدم اليقين تدفع الشركات الأميركية إلى تقليص خطط التوسع. كما أن التصنيع المحلي لا يزال يواجه تحديات، إذ تعاني الشركات من ارتفاع تكاليف المواد الأساسية مثل البراغي والمسامير، ما يؤكد استمرار الاعتماد على الموردين الأجانب.
وقال دان ديغري، الرئيس التنفيذي لشركة «ميسكو سبيكرز»: «لا يمكنك فرض تعريفات ثم تتوقع أن تتحول أميركا إلى أمة صناعية بين ليلة وضحاها»، مشيراً إلى أن بعض المكونات الأساسية لا تزال أرخص عند استيرادها من الخارج.
مع استمرار ترامب في التصعيد التجاري، يبقى السؤال مفتوحاً حول مدى نجاح هذه الاستراتيجية. بينما يرى مؤيدوه أن الرسوم الجمركية ستعيد الهيمنة الأميركية على التصنيع، يحذر اقتصاديون من أن العجز التجاري لن يتراجع بسهولة، إذ تلعب عوامل أخرى مثل العجز في الموازنة وانخفاض الادخار دوراً رئيساً.
في النهاية، يبقى المشهد الاقتصادي العالمي في حالة من الترقب، مع استمرار تأثير سياسات ترامب على الأسواق، سواء من حيث تدفقات الاستثمار أم إعادة توزيع الإنتاج الصناعي حول العالم.