لا يزال شهر رمضان يحافظ على تأثيره القوي في تشكيل سلوك المستهلك في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. على الرغم من التحديات الاقتصادية الناجمة عن الأزمات العالمية والإقليمية، يشهد إنفاق المستهلكين ارتفاعاً كبيراً في قطاعات الأغذية، والهدايا، والملابس، في ظل توجه متزايد نحو التسوق الرقمي خلال هذا الشهر.
وبينما تعزز الأسواق استراتيجياتها التسويقية لتلبية الطلب المتزايد، تحذر تقارير اقتصادية من تفاقم الإسراف وإهدار الطعام، ما يفرض ضرورة إعادة النظر في العادات الشرائية والحد من الإنفاق غير الضروري في شهر رمضان.
التساؤل الأبرز هنا يكمن حول كيفية تأثير الشهر الفضيل في تشكيل سلوك المستهلك في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟
لفهم هذا التغير في أنماط المستهلكين، أجرت شركة «يوجوف» (YOU GOV) دراسة للتعرف على أنماط الإنفاق، وأظهرت أن 65% من المستهلكين في المنطقة تزيد نفقاتهم قبل رمضان، بينما يتجه 30% إلى التسوق عبر الإنترنت بدلاً من المتاجر التقليدية. كما شهدت طلبات التوصيل ارتفاعاً بنسبة 40%، ما يعكس تغييراً ملحوظاً في سلوك المستهلكين الذين أصبحوا يعتمدون بشكل أكبر على التطبيقات الإلكترونية.
وشهدت المملكة العربية السعودية زيادة ملحوظة في المبيعات عبر الإنترنت، المرتبطة بالاستهلاك خلال رمضان، بلغت 38%، بحسب بيانات «نيلسن آي كيو (NIQ)»، بينما تسهم مبيعات السلع الاستهلاكية في الإمارات بنحو 19% من إجمالي المبيعات السنوية، ما يعكس دور رمضان في تنشيط السوق وزيادة حركة البيع.
وفي فئة السلع الاستهلاكية سريعة التداول، رصد مؤشر «نيلسن آي كيو» نمواً في القيمة بنسبة 26.5%، ما يعني أن الإنفاق الإجمالي خلال شهر رمضان 2024 زاد بشكل كبير مقارنة بالعام السابق.
وسيطرت فئات الأغذية بشكل واضح خلال شهر رمضان، ما يعكس أولويات وسلوك المستهلكين خلال هذه الفترة. إذ ساهمت فئات الأغذية بنسبة 81.6% من المبيعات، في حين ساهمت الفئات الأخرى غير الأغذية بنسبة 18.4%.
وفي الكويت، كشفت البيانات، أن معدل استهلاك الفرد من المواد الغذائية تضاعف 3 مرات، ووصل متوسط الإنفاق على المواد الغذائية خلال الشهر الفضيل إلى 430 مليون دينار كويتي، وتتصدر المواد الغذائية الأساسية كالأرز والسكر قائمة المواد الأكثر استهلاكاً، بالإضافة إلى الحلويات والعصائر.
هذه الأرقام تعكس حجم الإسراف والتبذير الذي يصاحب استقبال شهر رمضان، ويؤدي بدوره إلى زيادة الضغوط المالية على الأسر ذوي الدخل المحدود، وفقاً للخبير الاقتصادي هشام محمد الذي أردف أن تلك العادات السلبية، والتي يرفضها الكثيرون تساهم في زيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
أمنية محمد شابة تعيش برفقة عائلتها في الإمارات، تعترف أن نفقات أسرتها خلال شهر رمضان ترتفع بشكل مبالغ فيه، مشيرةً إلى أنّ أغلب المصاريف تذهب لاقتناء منتوجات غذائية، وتضيف في حديثها «لإرم بزنس» "هناك اعتقاد سائد بأن المائدة يجب أن تكون ممتلئة بالأطباق؛ لأن "العين هي التي تأكل وليس البطن"، وينتهي بها المطاف في سلة المهملات.
هذه العادات الاستهلاكية المرهقة لميزانيات الأفراد والأسر، يقول عنها الخبير الاقتصادي هشام محمد أنها لا تقتصر على الإسراف والتبذير فحسب، «وإنما الصرف غير الموجه وشراء كميات تفوق الحاجة، وكذلك الاستهلاك الاندفاعي والمفرط، بجانب الاستسلام للإعلانات التسويقية التي تتم بطرق مثيرة»، جميعها عوامل تدفع الناس للشراء غير المبرر وأخيراً إهدار الطعام الذي وصل لمستويات قياسية وفقاً لتحذيرات أممية بانتشار المجاعة.
ويفيد مؤشر الأغذية المهدرة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، أن 900 مليون طن من الطعام تُرمى في النفايات عبر العالم سنوياً. فيما يقابل هذا الهدر في رمضان وغيره، وجود 795 مليون جائع في العالم، بحسب أحدث تقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «فاو»، وتشير تقديرات المنظمة إلى هدر مليار و300 مليون طن من الأغذية سنوياً، وفي المقابل فإن شخصاً واحداً من بين كل سبعة أشخاص في العالم ينام جائعاً، وأن نحو 20 ألف طفل دون سن الخامسة يموتون كل يوم من الجوع.
هذه العادات الاستهلاكية السلبية تتعارض مع روح شهر رمضان الذي يدعو إلى الزهد والتقشف وتقدير النعم. بحسب الخبيرة في علم النفس الاجتماعي، مايا مناع، التي تأسف على هذا الواقع الملموس، وتنصح في حديثها لـ«إرم بزنس» بضرورة تغيير نمط وثقافة الاستهلاك، والتركيز على تلبية الاحتياجات الأساسية فقط، وتعزيز الوعي بأهمية الاستهلاك المعتدل والصحي.
مناع تقول إن المجتمعات المتقدمة بحاجة إلى تغيير جذري في العادات الشرائية، والتركيز على تلبية الاحتياجات الفعلية بدلاً من التوجه إلى الإنفاق العاطفي.
ومع استمرار الارتفاع الكبير في الإنفاق خلال رمضان، وتحقيق الأسواق نمواً كبيراً في المبيعات، يكمن التحدي الأكبر في تحقيق التوازن بين تلبية متطلبات الشهر الفضيل والتحكم في ميزانية الأسر محدودة الدخل وكذلك الوصول للأمان الغذائي بتقليل هدر الطعام.