منذ عام 2011، تشهد ليبيا تحولات جذرية في المشهدين السياسي والاقتصادي، ما أثر بشكل عميق على انتشار تهريب المهاجرين، حيث أصبح هذا النشاط غير المشروع حجر الزاوية في اقتصاد البلاد، خاصة في المناطق التي تعتمد على التجارة العابرة للحدود.
وفي حين كان اقتصاد ليبيا في السابق يعتمد بشكل رئيس على النفط، فإن انهيار المؤسسات الحكومية، وصعود الفصائل المسلحة، وتجزؤ قوى الأمن مهدت الطريق لانتعاش عمليات التهريب، مما أثر بشكل بالغ على الديناميكيات الاقتصادية المحلية والوطنية، بحسب تقرير لمركز الأبحاث البريطاني «تشاتام هاوس» والمعروف باسم «المعهد الملكي للشؤون الدولية».
أدى انهيار الدولة إلى ازدهار تهريب المهاجرين، ومع تفكيك سلطة الدولة بشكل فعلي، استفادت الجماعات المسلحة من الفراغ السياسي، وحولت التهريب إلى تجارة مربحة.
بعد الحرب الأهلية في 2011، توسعت شبكات التهريب التي كانت موجودة بمستوى ضئيل، وأصبحت مدن ليبية مثل الكفرة وسبها والزواية، نقاطاً ساخنة للهجرة غير القانونية عبر البحر الأبيض المتوسط.
ومع تدهور الوضع الأمني، ارتفع عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا، وبخاصة إيطاليا، بشكل كبير. ففي عام 2011، عبر 28,431 مهاجراً من ليبيا إلى إيطاليا في رحلة محفوفة بالمخاطر. وبحلول عام 2016، ارتفع هذا الرقم إلى 162,895، وفق التقرير.
وشهدت تكاليف عبور المهاجرين للبحر الأبيض المتوسط انخفاضاً حاداً، من حوالي 1000 دولار في عام 2013 إلى ما بين 60-90 دولاراً في عام 2017، مما ساهم في تسريع تدفق المهاجرين وجذب المزيد منهم إلى السواحل الليبية.
تحول تهريب المهاجرين إلى قوة اقتصادية رئيسة داخل ليبيا، حيث يدر دخلاً كبيراً للمجتمعات المحلية والجماعات المسلحة التي تشارك في تسهيل الهجرة.
وكشف تقرير سابق للمعهد في 2016 أن تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر قد أنتج حوالي 978 مليون دولار من الإيرادات، وأصبحت الإيرادات الناتجة عن هذه التجارة غير المشروعة مهمة بشكل خاص مع تراجع القطاعات الرسمية في ليبيا، مثل الزراعة والصناعة، بسبب النزاع وعدم الاستقرار.
في العديد من المدن الليبية، أصبح تهريب المهاجرين النشاط الاقتصادي الرئيس، على سبيل المثال، انخفض الإنتاج الزراعي في الكفرة من القمح والشعير بشكل ملحوظ في السنوات التي سبقت الثورة، ليحل التهريب محلها، كما أن قرب هذه المدن من السودان وتشاد ساهم في تعزيز تجارة تهريب المهاجرين، حيث يعبر المهاجرون من دول أفريقيا جنوب الصحراء عبر ليبيا في طريقهم إلى أوروبا.
التقرير أشار إلى أن 90% من سكان هذه المناطق يعتمدون على التهريب؛ مما أسهم في تدفق الأموال غير المشروعة وتفاقم التجزئة الاقتصادية في البلاد، وأدى إلى إضعاف هياكل الدولة وتعميق الانقسامات، إذ أصبحت هذه المجتمعات تعتمد بشكل أكبر على الإيرادات الناتجة عن الأنشطة غير القانونية.
كان للسياسات الأوروبية الرامية إلى الحد من تهريب المهاجرين في ليبيا تأثير كبير على تجارة التهريب. ففي عام 2017، وقعت إيطاليا مذكرة تفاهم مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، تهدف إلى الحد من الهجرة عبر ليبيا.
كجزء من هذا الاتفاق، تولت خفر السواحل الليبي مهام البحث والإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط، مما أدى إلى انخفاض أعداد المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا بين عامي 2016 و2018. ومع ذلك، لم تؤدِّ هذه الإجراءات إلى انهيار عمليات التهريب، بل تكيفت تلك الأنشطة، حيث ابتكر المهربون طرقاً وأساليب جديدة لتجاوز التدخلات الأوروبية.
بالإضافة إلى ذلك، أدى انسحاب عمليات الإنقاذ الأوروبية وفرض قيود متزايدة على المنظمات غير الحكومية (NGOs) العاملة في المياه الليبية إلى انخفاض في عمليات الإنقاذ، لكنه لم يوقف التهريب.
وبحلول عام 2023، انخفض عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا إلى 49,740 من ذروته البالغة 162,895 في 2016. ومع ذلك، على الرغم من انخفاض الأعداد، استمر عدد المهاجرين العالقين في ليبيا في الارتفاع.
وبحلول مايو 2024، كانت هناك تقديرات تشير إلى أن حوالي 214,675 مهاجراً لا يزالون في ليبيا، يعيش العديد منهم في ظروف غير مستقرة في انتظار الفرص لعبور البحر الأبيض المتوسط.
يؤدي استمرار الاضطراب في ليبيا إلى تعقيد جهود الحد من تهريب المهاجرين. فالتنافس بين الفصائل السياسية، إلى جانب سيطرة الجماعات المسلحة على الأراضي وطرق التجارة، جعل من الصعب تنفيذ سياسات فعّالة.
كما أن هذه الجماعات غالباً ما تكون متورطة في تعزيز نشاطات التهريب وفي الوقت نفسه في مواجهتها، مما يزيد تعقيد المساعي الرامية إلى معالجة هذه الصناعة غير المشروعة.
وبينما تقلل الجهود الخارجية من وصول المهاجرين إلى أوروبا، إلا أنها لم تعالج القضايا الأساسية مثل الحوكمة والتجزئة الاقتصادية وانتشار الجماعات المسلحة. وحتى يتم معالجة هذه القضايا، سيظل تهريب المهاجرين عنصراً رئيساً في اقتصاد ليبيا، رغم كونه غير قانوني.