في بلد يُعد من أكثر دول العالم جفافاً، حيث الصحارى تمتد على أكثر من 90% من أراضيه، وتتهاوى حصة الفرد من المياه إلى أدنى مستوياتها عالمياً، يقف الأردن اليوم أمام تحدٍّ وجودي لا يقل خطورة عن أي تهديد اقتصادي أو سياسي.
وسط شح الموارد، والتغيرات المناخية القاسية، والانفجار السكاني بفعل اللجوء والنمو الطبيعي، يكافح هذا البلد الصغير بصبرٍ وابتكارٍ للحفاظ على قطرة ماء.
في هذا السياق، كشف وزير المياه والري الأردني رائد أبو السعود، في مقابلة خاصة مع «إرم بزنس»، عن خريطة الطريق الوطنية الممتدة حتى عام 2040، والتي تستهدف انتشال المملكة من حافة العطش، عبر مشاريع استراتيجية طموحة، على رأسها مشروع الناقل الوطني، والتوسع في الطاقة المتجددة، وإعادة استخدام المياه غير التقليدية، وتقليل الفاقد، في «معركة لا خيار فيها سوى الانتصار».
الوزير الأردني أكد أن المملكة تواجه أزمة مائية تعتبر من بين الأشد عالمياً، في ظل محدودية الموارد الطبيعية، والتحديات المناخية المتزايدة، والضغوط السكانية والجيوسياسية التي تتعرض لها البلاد منذ عقود.
وقال إن حصة الفرد من المياه في الأردن لا تتجاوز 60 متراً مكعباً سنوياً لكافة الاستخدامات، في حين أن المعدل العالمي للأمان المائي يبلغ 500 متر مكعب؛ ما يضع الأردن ضمن الدول الثلاث الأشد فقراً مائياً في العالم.
أوضح أن الأسباب الرئيسة للأزمة تعود إلى النمو السكاني المستمر الذي تجاوز 11 مليون نسمة، نتيجة للزيادة الطبيعية ولجوء الملايين إلى المملكة هرباً من الحروب في دول الجوار، إلى جانب تراجع معدلات الهطول المطري خلال السنوات الأخيرة، حيث لم يتجاوز الموسم المطري الحالي 42% من المعدل العام، البالغ نحو 8.2 مليار متر مكعب.
وأضاف أن 92% من مساحة الأردن تصنف كأراضٍ صحراوية جافة؛ ما يزيد صعوبة تجميع المياه وتخزينها، في ظل ارتفاع درجات الحرارة وتغير نمط الأمطار الموسمية. وبيّن أن كميات المياه المخزنة في السدود سجلت هذا العام أدنى مستوى لها منذ أكثر من عشر سنوات، حيث لم تتجاوز 97 مليون متر مكعب في جميع السدود الرئيسة، بنسبة تخزين لا تزيد عن 32%، وهو ما يضع ضغوطاً كبيرة على نظام التوزيع المائي في البلاد.
وأشار الوزير إلى إطلاق الحكومة الأردنية استراتيجية وطنية شاملة للمياه للفترة 2023–2040 تهدف إلى تحسين إدارة الموارد المائية وضمان استدامتها، عبر مجموعة متكاملة من السياسات والمشاريع.
وأوضح أن أبرز ما تتضمنه هذه الاستراتيجية هو خفض الفاقد المائي، الذي كان يصل إلى 56% قبل سنوات، وقُلِّص مؤخراً إلى 46%، عبر تحسين الشبكات وتطبيق أنظمة الكشف المبكر. كما يتم العمل على التوسع في مشاريع الحصاد المائي وبناء السدود والحفائر، حيث يوجد في الأردن حاليًا 16 سداً رئيساً بطاقة إجمالية 336 مليون متر مكعب، إضافة إلى أكثر من 500 حفيرة و60 سداً صحراوياً بطاقة إضافية تقارب 150 مليون متر مكعب.
يعتبر مشروع الناقل الوطني لتحلية مياه البحر الأحمر في العقبة ونقلها إلى معظم مناطق المملكة المشروع الاستراتيجي الأهم في هذه المرحلة، حيث سينقل نحو 300 مليون متر مكعب سنوياً عبر خط يمتد على طول 450 كيلومتراً.
وأكد الوزير أنه سيسهم بتعزيز الأمن المائي الوطني، خاصة وأنه سيعتمد بنسبة 50% على الطاقة المتجددة في تشغيل محطاته؛ ما يجعله خطوة مهمة أيضاً في خفض كلفة التشغيل والانبعاثات الكربونية.
لفت الوزير إلى أهمية التوسع في استخدام المياه غير التقليدية، كالمياه المالحة والمعالجة، حيث توجد في المملكة 33 محطة لمعالجة المياه العادمة، يتم من خلالها إنتاج نحو 200 مليون متر مكعب سنوياً، تُستخدم في الزراعات المقيدة ضمن معايير صحية صارمة.
وأضاف أن الوزارة نجحت في خفض استخدام المياه في الزراعة من 70% إلى 56% خلال السنوات الماضية، مع زيادة واضحة في الإنتاج الزراعي، بفضل رفع كفاءة الري وتحديث أنظمته، ودعم المزارعين للتحول إلى أساليب ري ذكية ومقتصدة.
أكد أبو السعود أن قطاع المياه يعاني أيضاً من ضغوط مالية كبيرة ناجمة عن ارتفاع كلفة الطاقة، إذ تضاعفت كلفة الضخ والمعالجة من 62 سنتاً إلى 1.4 دولار للمتر المكعب خلال الأعوام الأخيرة؛ ما رفع فاتورة الطاقة من 66 مليون دولار عام 2006 إلى نحو 266 مليون دولار العام الماضي.
وأشار إلى أن الحكومة تدعم القطاع سنوياً بأكثر من 357 مليون دينار لتغطية العجز، إلا أن مديونية قطاع المياه وصلت إلى 3.85 مليار دولار؛ ما يفرض تحديات إضافية تتطلب إدارة مالية دقيقة وحلولاً مبتكرة.
في مواجهة هذا العبء المالي، أوضح الوزير أن الوزارة تسعى إلى خفض الكلفة من خلال التوسع في استخدام الطاقة المتجددة لتشغيل الآبار ومحطات المياه، حيث بدأ تشغيل العديد من المواقع على الطاقة الشمسية بالفعل. كما يجري إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي لإدارة محطات الضخ، بهدف تحسين الكفاءة وخفض استهلاك الكهرباء. ولفت إلى أن بعض السدود باتت تُستخدم أيضًا لتوليد الطاقة، ضمن توجه حكومي يهدف إلى تحقيق تكامل فعّال بين سياسات المياه والطاقة.
وجّه وزير المياه والري رسالة إلى الأردنيين، أكد فيها أن الحفاظ على الأمن المائي الوطني مسؤولية جماعية، مشدداً على أهمية ترسيخ ثقافة الترشيد والوعي المائي، والالتزام بالاستخدام المسؤول للمياه.
وقال إن الوزارة تعمل على مدار الساعة لتوفير المياه للمواطنين جميعهم، لكنها بحاجة إلى دعم المجتمع ومشاركة فاعلة من الجميع لمواجهة هذا التحدي الكبير، داعياً أيضاً إلى تعزيز التعاون الإقليمي والدولي في هذا الملف الحيوي، الذي لم يعد يخص الأردن وحده، بل المنطقة بأكملها.