جهود أممية وليبية لحث أطراف السلطة على اعتماد موازنة موحدة في 2025
يتطلع اقتصاد ليبيا، التي تعد من أبرز الدول المنتجة للنفط والعضو في منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك»، إلى اعتماد ميزانية موحدة تشمل كافة أنحاء البلاد، التي تعاني انقساماً إدارياً. ففي الوقت الراهن، تنفذ حكومة في بنغازي ميزانيتها في الشرق، بينما ترفض الحكومة في طرابلس اعتمادها غرب البلاد. ومع تزايد الأزمات الاقتصادية مثل شح السيولة وتراجع قيمة العملة المحلية، تزداد الآمال الأممية والليبية بإقرار ميزانية واحدة في العام المقبل لتوحيد إدارة البلاد.
التأكيد الأممي الليبي الذي تدعمه توصيات صندوق النقد الدولي بات تنفيذه على أرض الواقع أمراً ملحاً، بحسب خبراء ومعنيين بالشأن الليبي، تحدثوا لـ«إرم بزنس»، لما له من آثار إيجابية على اقتصاد البلاد، واشترطوا لخروجه إلى النور حدوث توافق سياسي ونجاح جهود أممية قريبة بتشكيل حكومة موحدة قريباً؛ لمنع هدر المال العام وتعافي الاقتصاد.
وقابلت حكومة الغرب في ليبيا ميزانية قال مجلس النواب في الشرق خلال يوليو الماضي، إنها «موحدة» بعدم الاعتماد. وضمت الميزانية نفقات غير مسبوقة بقيمة 180 مليار دينار (37 مليار دولار)، في بلد يعد النفط القوة الدافعة لاقتصاده، إذ يشكل قرابة 96% من الصادرات، ويساهم بنحو 98% من إيرادات خزينة الدولة.
يأتي الحديث الجديد عن الموازنة الموحدة، وسط إصلاحات اقتصادية لتفادي أي تعثر مالي شمل إعلان مصرف ليبيا المركزي في 5 ديسمبر الجاري، قراراً بطباعة 30 مليار دينار، لحلحلة مشكلة شح السيولة في البنوك التجارية في البلاد.
وكشف بيان مصرف ليبيا المركزي في 8 ديسمبر الجاري، عن تسجيل إيرادات بقيمة 86.3 مليار دينار معظمها من العوائد النفطية، في مقابل مصروفات بلغت 84.9 مليار دينار، بفائض 1.4 مليار دينار خلال أول 11 شهراً من العام 2024.
وأظهر البيان انخفاض إيرادات النقد الأجنبي خلال العام الجاري مقارنة بعام 2023، إذ تراجعت من 22.3 مليار دولار إلى 17.1 مليار دولار خلال الفترة ذاتها.
أفاد بيان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في 4 ديسمبر الجاري، أن القائمة بأعمال رئيس البعثة، ستيفاني خوري، كثفت مشاوراتها مع الأطراف السياسية الليبية، والتقت رئيس مجلس النواب، المستشار عقيلة صالح، وأكدا «أهمية وضع ميزانية موحدة للعام المقبل، من شأنها وضع سقف للإنفاق والحد من هدر الأموال العامة»، وذلك قبيل اجتماع لمجلس الأمن الدولي بشأن ليبيا هذا الشهر، وفق إعلام ليبي.
دعا صندوق النقد الدولي في توصيات جديدة، يوم الثلاثاء الماضي، إلى ضرورة أن تتفق السلطات الليبية على أولويات الإنفاق من خلال «ميزانية موحدة معتمدة لعام 2025»، باعتبارها ستساعد على تجنب الإنفاق المؤيد للدورة الاقتصادية وتحسين إدارة موارد ليبيا.
ومنذ انقسام ليبيا بين حكومتين في 2016، تعثر الاتفاق على ميزانية موحدة معتمدة من الجانبين، وكانت العودة إلى تلك الموازنة مطلباً دولياً تكرر أكثر من مرة، كان بينها في أكتوبر الماضي بمطالبة مجلس الأمن الدولي بإعداد ميزانية موحدة لضمان استقرار النظام المالي الليبي.
كما أكد المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، في أغسطس الماضي، «الحاجة الضرورية إلى اتفاق قائم على التوافق بشأن موازنة موحدة بين الشرق والغرب؛ للحد من الإنفاق الحكومي والسماح بسياسة نقدية ومالية متماسكة»، وذلك في منشور عبر منصة «إكس».
في يوليو الماضي، وافق مجلس النواب في شرق ليبيا، على اعتماد مخصص إضافي للميزانية العامة للدولة لعام 2024، بقيمة 88 مليار دينار، لترتفع الميزانية العامة الموحدة إلى 180 مليار دينار، وبذلك تكون أول ميزانية بهذا الحجم في تاريخ ليبيا، وسط رفض من المجلسين الرئاسي والدولة، وتحذير من إهدار المال العام باعتبار أنها «مخالفة للاتفاق السياسي والإعلان الدستوري، ومُرِّرَت دون تشاور، وأنها تحمل مبلغاً مالياً غير مسبوق».
وعقب أي تصديق على الميزانية تُوَزَّع من مصرف ليبيا المركزي على الحكومتين المتنافستين على حكم البلاد، وهما حكومة عبدالحميد الدبيبة في غرب البلاد، وحكومة أسامة حماد في منطقتي الشرق والجنوب.
وسبق أن أعلنت بعثة الأمم المتحدة في فبراير 2021، موافقة الأطراف الليبية على ميزانية موحدة لشهرين، دون أن تجد طريقاً للتنفيذ، قبل أن تعود تأكيدات أممية ليبية جديدة بأهمية أن تبرم العام المقبل.
يرى وكيل وزارة المالية والتخطيط سابقاً، إدريس الشريف، في حديث لـ«إرم بزنس»، أنه يمكن نظرياً وضع ميزانية موحدة العام المقبل، لكن عملياً يجب أن يسبق ذلك اتفاق بين الحكومتين عليها، وهذا يلزمه حكومة موحدة، وليس مقسمة بالشرق والغرب.
وينبه إلى أن هناك حراكاً أممياً يسعى لطرح تشكيل حكومة موحدة تقود الانتخابات يوم 16 ديسمبر الجاري عبر اجتماع لمجلس الأمن، مضيفاً: «ربما هذا التحرك الأممي لإيجاد حكومة موحدة يقودنا العام المقبل لميزانية موحدة، لكن الأمور غير واضحة، وقد لا تنجح المحاولات كما رأينا في سنوات سابقة، منذ الانقسام».
وحال التوجه لإعداد موازنة موحدة يجب، وفق الشريف، أن تكون موزعة بعدالة على مناطق ليبيا، وهناك آليات واضحة للتنفيذ تمنع الهدر المبالغ وازدواجية الصرف، وتؤكد أهمية الرقابة والشفافية.
وأشار إلى أن الموازنة على الورق موحدة بالبلاد كلها تصدر سنوياً عادة من جهة البرلمان، وتنفذها حكومة في الشرق دون اعتماد من طرف نظيرتها في الغرب بدءاً من 2016، وهذا ما يجعل المطالبات متواصلة لتفعيلها بين الجانبين وتطبيقها على أرض الواقع.
ويوضح أن ليبيا شهدت استمرار العمل بموازنة موحدة مع حكومة عبد الله الثني؛ لأنه كان يدير شؤون البلاد بمفرده في 2014 و2015، قبل أن يتوقف ذلك مع وصول حكومة فايز السراج في 2016، ويبدأ الأخير بهذا العام بترتيبات مالية مؤقتة مع مصرف ليبيا المركزي منفصلة عن الشرق، بينما استمرت حكومة الشرق بالعمل على الموازنة المقررة على الورق بأنها موحدة للبلاد.
وأضاف أنه مع تشكيل حكومة عبدالحميد الدبيبة في 2021، لم يعتمد البرلمان ميزانيته، وتواصلت الأزمة باستمرار إصدار البرلمان ميزانيات يطلق عليها موحدة تنفذها حكومة الشرق، ولا تلقى اعترافاً واعتماداً من حكومة الغرب.
الخبير الليبي السابق بمنظمة "أوبك"، الدكتور محمد الشحاتي، يرى في حديث لـ«إرم بزنس»، أن «توقف العمل بالميزانيات منذ عام 2016، واُسْتُعِيض عنها بما يسمى بالترتيبات المالية المؤقتة في غرب البلاد».
وأوضح أن، الإنفاق الحكومي فقد أي شرعية له ما دام لا يوجد ميزانية، والميزانية لا يمكن إلا أن تكون موحدة أو واحدة بتعبير أصح.
ويعرّف الشحاتي «الميزانية الواحدة بأنها ميزانية قابلة للقياس المالي، وتضع حدوداً على الإنفاق واتجاهاته وتحديد الأجهزة التي تنفق، ولها حدود زمنية ومكانية؛ لذا يصعب التلاعب ببنودها، ويحتم على الأجهزة الحكومية ترشيد مصروفاتها والإعلان عنها».
أبرز الشحاتي، التحديات التي تواجه مسار وضع الميزانية في «عدم الالتزام بالقانون وتستر السلطات بالحاجة الشعبية للإنفاق مثلاً بالمرتبات والدعم اللذين لا يمكن إيقافهما خاصة وهو لا يوجد أي تخطيط تنموي واضح يبرر الإنفاق، ولا توجد مثلاً أي رؤية استراتيجية واضحة في شؤون الأمن والدفاع لتبرير الإنفاق عليها»، مشيراً إلى أن التدخلات الدولية عامل آخر يعرقل تمرير ميزانية نافذة.
ويعتبر الشحاتي، الموازنة الواحدة طوق نجاة لاقتصاد ليبيا قائلاً: «بالطبع الوصول إلى وضع ميزانية واحدة، سيكون الخطوة الأولى في حصار الهدر والفساد، وهناك خطوات أخرى يجب توافرها كوجود حوكمة جيدة ورقابة صارمة وتطبيق لمبادئ الإفصاح والشفافية وفقاً للمعايير المحاسبية، وبدون ذلك فإن الوضع سيبقى عشوائياً كما استمر للسنوات العشر الماضية».
المستثمرون في ليبيا أحد أضلاع الاقتصاد، الذي «تضرر من غياب الميزانية الموحدة لسنوات»، وفق المستثمر الليبي حسني بي، في حديث لـ«إرم بزنس»، مؤكداً أهمية الاتفاق على ميزانية موحدة لفائدتها للاقتصاد ولتحقيق قوة شرائية للدينار، ومنها ثقة للمستثمرين والمواطنين.
ويعتقد حسني بي، أنه من السهل وضع ميزانية موحدة، العام المقبل شريطة وجود إرادة سياسية لذلك، تعلم أن هناك سقف نفقات لا يتجاوز الإيرادات، ما يمنع الهدر وتعطّل المشروعات.
ويرى أنه بسبب الإنفاق المتنامي، وبسبب تمويل ميزانيات الحكومة بالعجز تخلق النقود من عدم، ويتسبب ذلك في انهيار الدينار بما يوازي 75% من قيمته خلال العقد الماضي، وتضخم بالأسعار ونقص السيولة، ونمو السوق الموازي، والمضاربة على الدولار.