تشهد أسواق السندات في عدد من الاقتصادات الكبرى تقلبات حادة، حيث أدت موجات بيع كبيرة في دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض بشكل ملحوظ. ويقف وراء هذه التحركات مستثمرو السندات الحكومية، الذين يعبرون عن قلقهم إزاء السياسات المالية والاقتصادية الحالية.
يبرز في هذا السياق مفهوم «حراس السندات»، وهو مصطلح يشير إلى مستثمري السندات الذين يدفعون تكاليف الاقتراض إلى مستويات أعلى بهدف الضغط على الحكومات لتشديد سياساتها المالية وتحسين موازناتها. هذا المصطلح يعود إلى التسعينيات عندما لعب مستثمرو السندات دوراً رئيسياً في تعديل السياسات الحكومية في الولايات المتحدة.
تتراجع أسعار السندات الحكومية منذ شهور، مما يؤدي إلى ارتفاع العوائد عليها. يعود ذلك إلى تغييرات في توقعات المستثمرين بشأن التضخم، حيث يعتقدون بأنه سيظل مستمراً فترة أطول مما كان متوقعاً، وأن البنوك المركزية ستكون أبطأ في خفض أسعار الفائدة.
لكن الأمور تفاقمت في الدول ذات الديون العالية، حيث أضافت خطط الحكومات لزيادة الاقتراض، سواء لدعم الإنفاق أو تقديم تخفيضات ضريبية، مزيداً من القلق لدى المستثمرين. هذا السيناريو أثار حذر المستثمرين الذين ينظرون إلى السياسات المالية لهذه الدول بعين الشك، خاصة مع ازدياد نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وتفاقم العجز المالي.
يسعى المستثمرون من خلال رفع تكاليف الاقتراض إلى توجيه رسالة واضحة: الحكومات بحاجة إلى إعادة ضبط سياساتها المالية. الوضع الحالي، الذي يشهد مستويات عالية من الديون وخططاً لزيادة الإنفاق، يثير تساؤلات حول مدى استدامة هذه السياسات وقدرة الأسواق على تحملها.
ارتفاع تكاليف الاقتراض يعني أن الحكومات يجب أن تدفع فوائد أعلى على الأموال التي تقترضها من خلال إصدار السندات الحكومية. ويحدث هذا بسبب انخفاض أسعار السندات في الأسواق المالية، مما يؤدي إلى ارتفاع عوائد السندات، وهي النسبة المئوية التي يحصل عليها المستثمر مقابل شراء السند.
لعب مستثمرو السندات دائمًا دور «الرقيب المالي» على سياسات الحكومات. ارتبط مصطلح «حراس السندات» في الأصل بالسوق الأميركية في التسعينيات، حيث نجح مستثمرو السندات في إجبار الحكومات على تعديل سياساتها المالية. ومع عودة الحديث عن هذا المصطلح اليوم، فإن تقلبات العوائد الأخيرة تؤكد أن الأسواق تفرض ضغوطاً ملموسة على صانعي السياسات.
في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، وصلت تكاليف الاقتراض لمدة 30 عاماً إلى أعلى مستوياتها منذ التسعينيات، بينما بلغت عوائد السندات لعشر سنوات أعلى مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية. وفي فرنسا، ارتفع الفارق بين عوائد السندات الفرنسية والألمانية إلى أعلى مستوياته منذ أزمة منطقة اليورو، ما يعكس تصاعد الضغوط على الحكومة الفرنسية.
من العوامل التي أسهمت في هذه التحركات الأخيرة أن البنوك المركزية، التي كانت تشتري كميات كبيرة من السندات الحكومية خلال السنوات الماضية، بدأت الآن في تقليص ميزانياتها وبيع الأصل، أو ما نسميه التيسير الكمي. هذا التحول أدى إلى تقليل الطلب على السندات، مما أتاح المجال لارتفاع تكاليف الاقتراض.
بالإضافة إلى ذلك، تقوم الصين بتقليص استثماراتها في الديون الأجنبية، مما زاد من نقص المشترين الكبار في السوق. النتيجة هي أن أسعار السندات أصبحت أكثر عرضة للتقلبات، مما رفع العوائد عليها بشكل كبير.
في بعض الحالات، أدت ردود فعل الأسواق إلى تغيير السياسات الحكومية أو التأثير عليها. في فرنسا، لعبت ردود فعل الأسواق دوراً في المناقشات السياسية حول العجز المالي والسياسات الحكومية. وفي المملكة المتحدة، لا تزال الذاكرة حية عن التأثير السلبي الذي أحدثته الميزانية المصغرة غير المدروسة لحكومة ليز تراس عام 2022، مما جعل الحكومة الحالية أكثر حذراً في التعامل مع الضغوط السوقية.
وتوضح التطورات الحالية أن الأسواق المالية، وخاصة أسواق السندات، تلعب دوراً كبيراً في ضبط السياسات الحكومية. «حراس السندات» يعيدون التأكيد على أهمية ضبط الموازنات الحكومية في ظل ارتفاع مستويات الديون والعجز. ومع استمرار التحديات الاقتصادية، يبقى السؤال حول ما إذا كانت الحكومات ستتمكن من التكيف مع هذه الضغوط أو ستجد نفسها مضطرة لإعادة النظر في سياساتها المالية.
ملاحظة: ارتفاع عوائد السندات يحدث عند انخفاض قيمتها.
هذه العلاقة العكسية تجعل العوائد مؤشراً حساساً لحركة السوق وثقة المستثمرين.