وقد اقتنص اللاعبون الكبار، من خارج مدار أو سيطرة ذلك القطب، الفرصة للبدء بإطلاق مبادرات في جوهرها اقتصادية، وفي باطنها أبعاد سياسية وعسكرية، للدخول إلى معترك تشكيل النظام العالمي الجديد المقبل، وهو نظام تجتمع فيه الدول المصنَّفة أنها "مجموعة الدول الناشئة"، والتي تشكَّلت منها نواة تحت مسمّى "كتلة بريكس" وباتت اليوم تشكِّل الحجم الأكبر اقتصادياً من حيث التجارة والناتج المحلي بين دول العالم من جهة، والأكبر من حيث الموارد البشرية والجغرافية من جهة ثانية.
مجموعة بريكس التي بدأت منذ عام 2006، تشهد اليوم اهتماماً كبيراً للانضمام إليها، وهي تُعِدُّ العدة لاجتماعها السنوي، الذي سيُعقَد بين الفترة 22 و24 أغسطس، وخاصة من قِبَل العديد من الدول الناشئة المحورية حول العالم، في منطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا.
وقد انعقد الأسبوع المنصرم اجتماع تحت مُسمّى "اجتماع أصدقاء بريكس" حضره في كيب تاون عاصمة جنوب إفريقيا، ممثلون عن السعودية، الإمارات، إيران، الكونغو، كوريا الجنوبية، جزر القمر، الجابون، وكازاخستان، كما شارك فيه عن بُعد، ممثلون عن مصر، إندونيسيا، الأرجنتين، بنغلاديش، وغينيا بيساو. والمعروف أنَّ معظم تلك الدول، إن لم يكن جميعها، أبدت رغبةً في الانضمام إلى تكتُّل بريكس.
الشاهد هنا أنَّ العالم بصدد نظامٍ عالميٍّ جديدٍ سيتحقَّق، سواء أكان ذلك في الأجل المتوسط أو البعيد، وأنَّ مكوِّنات ذلك النظام بدأت في الظهور على شكل كتل، وأنظمة مالية، وبنوك وصناديق عالمية متخصِّصة، بل وأنظمة تسويات وتحويلات مالية عالمية في طور التحقُّق والعمل، وإن كان ذلك بين دول المجموعة فحسب.
هذه التطورات لا تعني أفول النجم الساطع للدولار والقوة السياسية أو العسكرية للولايات المتحدة، بيد أنها توحي بإرهاصات واضحة نحو تحوُّلات عالمية مهمّة سيشهدها العالم تباعاً خلال العقد الحالي والعقد المقبل، ومن المعتقد أنَّ المعطيات على أرض الواقع تؤكِّد أنَّ العالم سيتجه إلى نظام عالمي مالي جديد لا يعتمد على عملة واحدة، ولا حتى على معدن محدَّد، بقدر اعتماده على آلية تسويات مالية تجارية ونقدية بعيدة عن الاحتكار القائم للدولار ولنظام سويفت، الذين بالفعل شكَّلا معاً تسهيلات كبيرة في عمليات التحويل المالية والدفع، وكوسيط لتحديد القيم، وفي تبسيط سبل الادخار العالمية، بيد أنهما استخدما سياسياً وبشكل تعسُّفي أحياناً، فكانت النتيجة الفزع الأكبر من لدن القوى الناشئة الجديدة، والخوف على مصالحها الدولية، وأرصدتها، وتسوية حساباتها التجارية مع العالم، خاصة بعد تطبيق ذلك السلاح على دول ناشئة مهمة في تشكيلة النظام العالمي الجديد، مثل روسيا، وتهديد الصين بالتلويح بإمكانية استخدام ذات الآلية ضدها.
النظام العالمي الجديد سيستفيد بالضرورة من الآليات المالية، والوسائل العالمية الرقمية الحديثة، وسبل التبادل التجاري العالمي المتقدِّمة، ولوجستيات ومنصات العمل الرقمية الجديدة والمتطورة، وقواعد البيانات الكبرى، بهدف استحداث وسائل جديدة للتعاملات التجارية والتسويات المالية عالمياً، وكذلك لتحقيق بدائل للعملة المسيطرة حالياً. النظام العالمي الجديد يُتوقَّع أن يقوم على مرتكَزَيْن اثنين؛ الأول سلة من العملات تكفلها مؤسَّسة عالمية تقيمها مجموعة دول البريكس، وقد تمَّ ذلك، والثاني آلية رقمية ضمن نظام ومنصة رقمية عالمية تقلِّل الحاجة إلى المعادن والعملات الورقية في التداولات، وتسهل تسويات المدفوعات وفق أرصدة، وبطاقات، وتطبيقات رقمية مقبولة عالمياً، وسواء رغبت بذلك الدول المسيطرة اليوم أم لم ترغب، فإنَّ العديد من دول العالم ستنضمُّ تباعاً لتلك الآلية، دون الحاجة إلى الخروج الكامل من النظام المالي العالمي القائم حالياً؛ فلكلٍّ طريقه واستخدامه، وأفول الأنظمة المالية العالمية لم يكن يوماً بين ليلة وضحاها، بل سيشهده العالم على مدى عقدين أو ثلاثة على أقصى تقدير، والحصيف مَن استشرف المستقبل واستعدَّ له، لا مَن ينظر وينتظر مغارمه ومغانمه.