أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن هدف حملته، تخفيض قيمة الدولار الأميركي، إذا فاز في الانتخابات المقبلة، بهدف تعزيز الصناعة الأميركية عن طريق جعل صادرات الولايات المتحدة أرخص، وأكثر تنافسية على مستوى العالم، وتقليل العجز التجاري.
أثار الخبراء الاقتصاديون والمحللون مخاوف بشأن جدوى وتبعات هذه الإستراتيجية، مشيرين إلى وجود تناقضات جوهرية في السياسات المقترحة.
أحد التناقضات الرئيسة في خطة ترامب، يكمن في دعوته إلى فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات الأجنبية. يرى المحللون أن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى تعزيز الدولار الأميركي بدلاً من إضعافه، إذ إن الرسوم الجمركية تميل إلى تقليل الطلب على السلع الأجنبية؛ ما يزيد قيمة العملة المحلية. هذه الرسوم قد تزيد التكاليف المحلية، وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ما يسهم في زيادة التضخم واحتمال رفع أسعار الفائدة، ما يعزز بالتالي الدولار بدلاً من إضعافه.
إلى جانب ذلك، تُعزز السياسات الاقتصادية الأوسع لترامب، مثل تخفيض الضرائب، من قيمة الدولار عن طريق تعزيز النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية، علماً أن سياسات تخفيض أسعار الفائدة التي يتبعها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي حالياً ستؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار الأميركي على أي حال، لأنها تتسبب في تقليل جاذبية الاستثمارات في الأصول المقومة بالدولار؛ بسبب العوائد المنخفضة عليه.
لتوضيح السياق، يمكن مقارنة الوضع الحالي بمحاولة خفض قيمة الدولار في "اتفاقية بلازا" (Plaza Accord) عام 1985. تلك الاتفاقية نجحت جزئياً في خفض قيمة الدولار من خلال تنسيق دولي. أما اليوم، فإن تكرار مثل هذه الإستراتيجية يبدو أكثر تعقيداً، بسبب غياب التنسيق الدولي، والوضع الاقتصادي العالمي المتغير.
هدفت تلك الاتفاقية إلى معالجة العجز التجاري الأميركي عن طريق تخفيض قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى، مثل الين الياباني والمارك الألماني. ومع ذلك، أدت الاتفاقية إلى تداعيات اقتصادية أخرى، بما في ذلك تضخم مفرط في اليابان، وأسواق مالية متقلبة.
من هنا، فإن التحدي الأكبر اليوم، يكمن في إدارة التداعيات المحتملة لتخفيض قيمة الدولار، مثل ارتفاع التضخم وزيادة عبء الدين العام الأميركي.
من ناحية اقتصادية بحتة لتخفيض قيمة الدولار الأميركي، يجب على السياسات الاقتصادية المتبعة تجنب الإجراءات التي تعزّز قيمة العملة، مثل تلك التي يقترحها ترامب، من فرض رسوم جمركية عالية أو خفض كبير للضرائب.
ومن ناحية أخرى، فإن اتباع سياسات مثل زيادة العرض النقدي من خلال سياسات نقدية ميسرة، كشراء الأصول المالية، يمكن أن يؤدي إلى زيادة المعروض من الدولار في السوق؛ ما يخفض قيمته مقارنة بالعملات الأخرى، في وقتٍ تؤدي فيه زيادة المعروض من الدولارات أيضاً إلى زيادة حدة التضخم.
إن السياسات المالية التوسعية في الإنفاق الحكومي لضخ خفي، النظام المالي دون وجود تمويل كافٍ من خلال الضرائب، يمكن أن يؤدي إلى عجز في الميزانية. أما تمويل هذا العجز عن طريق الدين العام، فيمكن أن يضعف الدولار، فيما يتحوّل الدين في المستقبل إلى عبء على الاقتصاد.
يمكن للحكومة أن تتدخل بشكل مباشر في سوق الصرف الأجنبي لبيع الدولار وشراء عملات أخرى، ما يؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار. لكننا، وكما نتبيّن من تجربة "بنك اليابان" في التدخل ببيع أو شراء الين، فإن التأثير يكون مصطنعاً ومؤقتاً.
ربما يساعد دعم الصناعات التصديرية الأميركية على تقليل العجز التجاري وتعزيز الاقتصاد المحلي، بما يدعم خفض قيمة الدولار، لكنه في الحقيقة عبارة عن سياسة حمائية تتناقض مع التوجهات الرأسمالية، وكل الأدوار التي قامت بها الولايات المتحدة من خلال منظمة التجارة العالمية.
في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، اعتمدت الولايات المتحدة ودول عدة أخرى سياسات حمائية، مثل التعريفات الجمركية العالية، ومنها قانون التعريفة الجمركية المُسمى "سموث-هاولي" (Smoot-Hawley) الذي أسهم في تقليص التجارة العالمية، حيث ردّت الدول الأخرى بفرض تعريفات جمركية مماثلة؛ ما زاد حدة الأزمة الاقتصادية العالمية، وأدى إلى تعميق فترة الكساد الكبير.
رغم إمكانية استخدام مثل هذه الأدوات، فإن تنفيذها يتطلب حذراً شديداً. فالتدخل "العدواني" قد يؤدي إلى عدم استقرار السوق، وزيادة التضخم، وتفاقم أزمة الدين العام، كما يمكن أن يؤدي إلى تراجع الثقة بالدولار كعملة احتياطية عالمية.
وفيما تهدف إستراتيجية خفض قيمة الدولار إلى دعم الاقتصاد الأميركي، فإن التناقضات في السياسات الاقتصادية المقترحة، والعوامل الدولية المتغيرة، تجعل من تحقيق هذا الهدف، تحدياً كبيراً.