تواجه سوق المكاتب في الولايات المتحدة، التي بدأت تلتقط أنفاسها مدعومةً بانتعاش في نشاط التأجير، حالة جديدة من الغموض مع تصاعد التوترات التجارية وتزايد المخاوف من ركود اقتصادي.
فخلال الربع الأول من عام 2025، استأجرت الشركات مساحات مكتبية أكثر من أي ربع منذ منتصف عام 2019، وفقاً لبيانات مجموعة «كوستار» (CoStar)، المختصة بتوفير معلومات حول سوق العقارات التجارية في الولايات المتحدة، في إشارة إلى عودة طال انتظارها. إلا أن هذا الاندفاع في الاتجاه الإيجابي قد لا يدوم طويلاً.
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، أشار الوسطاء العقاريون إلى أن بعض الشركات بدأت بالفعل في التباطؤ أو التوقف عن البحث عن مساحات مكتبية جديدة، وسط حالة من عدم اليقين الاقتصادي، مدفوعة بتجدد دعوات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لفرض رسوم جمركية أعلى.
ورفع عدد من الاقتصاديين توقعاتهم بشأن احتمالية حدوث ركود اقتصادي، ما دفع الشركات إلى إعادة النظر في قرارات التأجير طويلة الأجل، خاصة مع تباطؤ التوظيف أو بدء تسريح الموظفين.
وقال مارك فايس، نائب الرئيس التنفيذي في شركة «كوشمان أند ويك فيلد» (Cushman & Wakefield): «لا أحد يرغب في أن يكون آخر من يوقع عقد إيجار طويل الأجل، أو يشتري مبنى، أو يستثمر رأس المال قبل أن ينهار كل شيء».
وأوضح التقرير أن توقف تعافي السوق قد يشكل ضربة كبيرة للمدن الأميركية الكبرى، التي تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على مناطق الأعمال والمكاتب في جمع الضرائب، وتوفير الوظائف، ودعم الأعمال الصغيرة المجاورة مثل المطاعم والمقاهي ومحلات التنظيف الجاف. ولا تزال العديد من مراكز المدن تعاني من ضعف الطلب وتراجع ملحوظ في قيمة المباني المكتبية منذ بداية الجائحة.
كما قد تؤدي الرسوم الجمركية المرتفعة إلى زيادة التضخم ورفع أسعار الفائدة، ما يثبط من وتيرة التطوير العقاري الجديدة ويؤخر جهود تحويل المباني القديمة إلى شقق سكنية أو مشاريع متعددة الاستخدامات.
كانت بداية تعافي السوق هذا العام مدفوعة بزيادة التوظيف في شركات المحاماة والخدمات المالية وغيرها من كبار مستخدمي المكاتب. كما حسمت العديد من الشركات الكبرى استراتيجياتها للعمل بعد الجائحة، وعادت لتوقيع عقود إيجار طويلة الأجل. إلى جانب ذلك، بدأت بعض الشركات مثل «أمازون» و«جيه بي مورغان تشيس» تطلب من موظفيها العودة إلى مكاتبهم بدوام كامل على مدار الأسبوع.
ويرى الخبراء أن سوق المكاتب قد تواصل النمو إذا واصل الاقتصاد الأميركي أداءه القوي. ويأمل بعض المُلاك أن تؤدي المفاوضات التجارية إلى تخفيف حدة التوتر، خاصة بعد إعلان ترامب تعليق فرض رسوم جديدة على معظم الدول لمدة 90 يوماً. لكن الوسطاء والمطورين يحذرون من أن حالة عدم اليقين المحيطة بالعلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتبادل الجانبين فرض الرسوم، قد تُبقي الشركات في حالة حذر حتى بعد انتهاء فترة التجميد المؤقت.
وقال لوني هندري، مدير المنتجات في شركة «تريب» (Trepp) لتحليل البيانات العقارية: «الغموض هو نقطة الضعف في سوق العقارات التجارية».
تعرضت سوق المكاتب لضربة شديدة في ذروة الجائحة، حين اكتشفت الشركات إمكانية العمل عن بعد وتقليص المساحات لتقليل التكاليف. وبلغت معدلات الشواغر مستويات قياسية قاربت 14%، بحسب «كوستار».
ومع بداية عام 2025، بدأت مؤشرات التحول في الظهور، حيث استأجرت الشركات الأميركية نحو 115 مليون قدم مربع من المساحات المكتبية في الربع الأول، بزيادة 13% عن الربع الأخير من عام 2024، وهو أعلى مستوى منذ عام 2019.
وكان الطلب مرتفعاً بشكل خاص على المواقع المميزة مثل «بارك أفنيو»، وكذلك على المباني الحديثة التي توفر تصاميم وخدمات متقدمة. ومع تراجع المعروض من هذه المساحات، بدأت كفة التفاوض تميل لصالح الملاك. وقال فيل موبلي، مدير التحليلات المكتبية لدى «كوستار»: «المستأجرون يسعون للحصول على تلك المساحات طالما لا تزال متاحة».
كما شهد نشاط التمويل العقاري مؤشرات انتعاش. فبعد سنوات من تراجع الإقراض بين عامي 2022 و2024 نتيجة ارتفاع الشواغر وزيادة حالات التعثر والحجز، بدأ التمويل يعود تدريجياً. وفي الربع الأول من 2025، شكّلت القروض المدعومة بعقارات مكتبية 26% من الأوراق المالية التجارية المدعومة بالرهون العقارية، مقارنة بـ8.6% فقط في عام 2024، وفقاً لبيانات «تريب».
لكن حالة الاضطراب الجديدة في الأسواق التجارية والمالية أعادت إثارة مخاوف المقرضين. وقال هندري: «كلما طال أمد هذا الوضع، تضاءل الانتعاش الأولي الذي بدأنا نلمسه».