في قلب المناطق التي تعصف بها الحروب، حيث تغيب الثقة بالأنظمة المالية، تبرز الأصول الرقمية كأدوات أساسية للبقاء وضمان استمرارية النشاط الاقتصادي.
فمع تعطل البنية التحتية المصرفية بشكل متكرر، بحسب تقرير نشرته منصة «كريبتو سليت» (CryptoSlate)، لم تعد البيتكوين والعملات المستقرة مجرد رموز مشفرة، بل أصبحت شرايين حياة تنقل السيولة، وتؤمّن القيمة وسط الانهيارات.
تُعد الدول المتأثرة بالحروب من بين الأكثر تهميشاً مالياً في العالم، حيث يواجه السكان صعوبة في الوصول إلى الخدمات المصرفية الأساسية، ما يدفعهم إلى استخدام الأصول الرقمية اللامركزية كبدائل للعملات التقليدية.
وألهمت فكرة البيتكوين، التي أنشأها ساتوشي ناكاموتو كعملة لا تخضع لسيطرة مركزية، تطوير منظومة أوسع من العملات الرقمية، كما برزت العملات المستقرة كبدائل سهلة الوصول ومربوطة بالدولار، قادرة على مواجهة انخفاض قيمة العملة المحلية.
وبالرغم من التحديات، كغياب الأطر التنظيمية وضعف الثقافة المالية، استطاعت الأصول الرقمية أن تملأ فراغاً هائلاً في أسواق مشلولة. وفي ظل تعطل سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف التشغيل، تحوّلت العملات المشفرة إلى وسيلة تخفيف، تتيح إجراء المدفوعات وتجاوز القيود المفروضة على المدفوعات عبر الحدود.
رغم الفوائد الكبيرة التي تقدمها الأصول الرقمية في المناطق المتأثرة بالحروب، إلا أن هناك العديد من التحديات التي تواجه اعتمادها بشكل واسع. من الناحية القانونية، تظل القوانين المنظمة للعملات الرقمية غير مكتملة أو غامضة في العديد من الدول المتأثرة بالنزاعات، مما يزيد صعوبة تنظيم السوق وحماية المستثمرين والمستخدمين من المخاطر. كما أن استخدام العملات الرقمية في تمويل الأنشطة غير القانونية أو الهجمات السيبرانية يضع ضغوطاً على الحكومات لتطبيق قوانين أكثر صرامة.
اقتصادياً، قد تواجه الدول المتأثرة بالحروب صعوبة في تكييف أنظمتها المالية مع طبيعة العملات الرقمية اللامركزية، حيث يتطلب ذلك بنية تحتية قوية لحماية المعاملات وتوفير الأمان الرقمي. كما أن تزايد عمليات تعدين العملات الرقمية قد يؤدي إلى ضغط إضافي على الأنظمة الكهربائية والموارد المحلية، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الهشة. هذا يتطلب استراتيجيات مدروسة من الحكومات لتوجيه هذا النشاط نحو فرص اقتصادية مستدامة دون التأثير سلباً على الاستقرار العام.
إضافة إلى ذلك، يظل انتشار الثقافة المالية في العديد من هذه الدول تحدياً كبيراً. بينما يمكن للأصول الرقمية أن تقدم حلولاً فعالة، فإن الوعي المحدود حول كيفية استخدامها بفعالية قد يعوق استفادة الأفراد والشركات منها بشكل كامل.
تعاني الأنظمة المصرفية في مناطق النزاع من اضطرابات شديدة، فتتوقف العديد من الشركات عن العمل، أو تنتقل إلى مناطق أكثر أماناً، بينما ترفع الشركات التي تبقى أسعارها بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل والمخاطر.
وفي هذه الاقتصادات المتضررة، تنطوي التحويلات الرقمية، رغم بساطتها، على فرص حقيقية للنجاة؛ إذ تقدم سرعة في التحويل، بتكاليف أقل، وسهولة في الوصول، وهي مزايا تجعلها بديلاً قابلاً للتطبيق عن العملات التقليدية.
كما توفر الأصول الرقمية وسيلة لتجاوز العقوبات المالية، مما يمكّن السكان والشركات من الحفاظ على آليات تحويل القيمة. وقد بدأت حكومات في دول مثل أوكرانيا وسوريا بدراسة طرق لإضفاء الشرعية على استخدام العملات الرقمية، الأمر الذي قد يعزز ثقة المؤسسات ويزيد انتشارها.
ففي عام 2022، أقرّت أوكرانيا قانون «الأصول الافتراضية»، معترفة رسمياً بالعملات الرقمية كملكية قانونية. ويمنح هذا القانون الأفراد والشركات الحق في امتلاك الأصول الافتراضية واستخدامها وتداولها. ويُشرف على هذا القطاع كل من «البنك الوطني الأوكراني» واللجنة الوطنية للأوراق المالية وسوق الأوراق المالية في البلاد.
أما سوريا، فلم تعتمد بعد تنظيماً رسمياً، إلا أن الحكومة تعمل حالياً على إعداد تشريعات تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية.
وراء هذا التحوّل تكمن فوائد ملموسة، فالأصول الرقمية متاحة دائماً، حتى حين تتوقف البنوك، وتُستخدم فعلياً كتحوّط ضد التضخم. وتشير الأرقام إلى أن العملات المستقرة تمثل نحو 70% من تداولات العملات الرقمية يومياً، وتوفر حماية قوية بفضل ارتباطها بالدولار بنسبة 1:1، ما يجعلها ملاذاً آمناً في بيئات فقدت عملاتها المحلية أكثر من 90% من قيمتها.
وتتعدى الفوائد ذلك؛ فبالنسبة للنازحين الذين لا يمكنهم الوصول إلى البنية التحتية المالية التقليدية، تكفي محفظة إلكترونية بسيطة، لا تتطلب سوى تحقق محدود من الهوية، لتأمين تحويل واستلام الأموال. أما الشركات، فتستفيد من المدفوعات السريعة والسيولة العالية في الأسواق الرقمية.
ووفقاً لبيانات «كوين ماركت كاب» (CoinMarketCap)، تخطى حجم التداول اليومي لعملة «تيثر» 52 مليار دولار، فيما بلغ إجمالي تداولات العملات المستقرة نحو 66 مليار دولار خلال 24 ساعة فقط، ما يعكس مستوى السيولة الفعّالة التي يمكن الاستفادة منها حتى في الظروف الاقتصادية القاسية.
على المستوى الوطني، تحمل العملات الرقمية فرصة اقتصادية كامنة، إذ يمكن للدول التي تمتلك فائضاً من الطاقة توجيه هذا الفائض إلى تعدين البيتكوين، ما يتيح تحويل الطاقة غير المستغلة إلى فرصة اقتصادية. وقد يسهم ذلك في إيجاد وظائف، وجذب استثمارات أجنبية، وتوليد إيرادات إضافية للحكومات.
كما أثبتت الطبيعة اللامركزية لهذه العملات فعاليتها في الأزمات، خصوصاً في جمع التبرعات. فقد جمعت أوكرانيا نحو 225 مليون دولار من العملات الرقمية لدعم مجهوداتها الحربية والإنسانية.
وفي دول مثل سوريا، حيث بلغ متوسط التضخم السنوي 100% وفقدت العملة المحلية نحو 30 ضعفاً من قيمتها خلال أربع سنوات، حقق البيتكوين معدل تضخم 1.5% فقط، وقفزت قيمته بنسبة 240% في الفترة نفسها، ما يعزز مكانته كأداة لحفظ القيمة على المدى الطويل.
رغم هذه الميزات، لا يخلو اعتماد العملات الرقمية من تحديات، أبرزها استخدامها المحتمل في تمويل أنشطة غير قانونية، ما يستدعي تطبيقاً صارماً لإجراءات «اعرف عميلك» (KYC) و«مكافحة غسل الأموال» (AML). كما أن الطبيعة اللامركزية للعملات الرقمية والافتقار للتشريعات الواضحة يفتح الباب أمام استغلال الثغرات القانونية، ويجعل استرداد الأموال في حال الاحتيال أمراً معقداً.
وعلى الصعيد العملي، قد تؤدي الظروف الاقتصادية الهشة إلى نشاطات تعدين عملات رقمية غير مرخصة أو غير قانونية، ما يزيد الضغط على أنظمة الطاقة المتدهورة أصلاً. إضافة إلى ذلك، يشكّل ضعف البنية التحتية الرقمية ونقص التوعية المالية عقبة أمام التوسع في استخدامها.
ورغم ذلك، تواصل هذه الأصول لعب دور حاسم حيث تفشل الأنظمة المالية التقليدية. فهي لا توفر فقط أدوات بقاء، بل تؤسس لنموذج مالي بديل يمكن أن يكون حجر الأساس لتعافٍ اقتصادي طويل الأمد.