منذ صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اتخذت السياسة التجارية للولايات المتحدة مساراً مختلفاً، أقرب إلى الانفصال المتعمد عن الاقتصاد العالمي، عبر موجات من الرسوم الجمركية الانتقامية، والخروج من الاتفاقيات متعددة الأطراف، والدعوة إلى إعادة سلاسل الإنتاج إلى الداخل الأميركي.
هذه السياسات تستند إلى فرضية أساسية مفادها أن الولايات المتحدة كانت ضحية للعولمة، وأن «استعادة العدالة التجارية» لا يمكن أن تتم إلا من خلال الانعزال الاقتصادي النسبي.
لكن السؤال الأكبر يظل مطروحاً:
هل يمكن فعلاً إعادة عجلة الاقتصاد العالمي إلى الوراء؟
وهل من الواقعي أن نتصور عالماً شبيهاً بما كان عليه قبل التسعينيات، حيث كانت الصناعات محلية، والأسواق مغلقة، والتجارة الدولية محكومة بحواجز عالية؟
الإجابة الاقتصادية، كما يراها معظم الخبراء، هي: لا.
من المهم أن نتذكر أن العولمة لم تكن مؤامرة خارجية ضد العمال الأميركيين أو الغربيين، بل كانت نتاجاً طبيعياً لسعي الشركات والمستهلكين والحكومات إلى خفض التكاليف، وتوسيع الأسواق، وتعظيم الأرباح.
فهل يمكن التراجع عن هذا كله بجرة قلم أو قرار جمركي؟
الشركات والمستهلكون لن يتنازلوا بسهولة
تطبيق الرسوم الجمركية من قبل إدارة ترامب أثبت شيئاً مهماً:
إن مقاومة العولمة ليست مجرد معركة سياسية، بل هي معركة ضد منظومة حوافز اقتصادية قوية.
في عالم تزداد فيه سرعة التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والاتصالات، أصبحت الحدود الاقتصادية أضعف من أن تعوق تدفق الأفكار، والمنتجات، ورؤوس الأموال.
حتى حين تحاول بعض الدول «إعادة تموضع العولمة» من خلال مفاهيم مثل (friend-shoring) أو (decoupling)، فهي لا تفعل ذلك كلياً، بل تبحث عن بدائل أكثر أماناً داخل نفس المنظومة العالمية.
ما تحاول إدارة ترامب فعله من خلال سياسات الرسوم الجمركية المتبادلة هو إعادة العالم إلى مرحلة ما قبل الترابط العالمي، لكنه رهان ضد المنطق الاقتصادي، وضد رغبات الأسواق، وضد سلوك المستهلك.
في النهاية، قد تتغير العولمة، وتعيد ترتيب أولوياتها، وتعزز أمن سلاسل التوريد، وتنوع مصادرها…لكنها لن تختفي، لأن العالم ببساطة ذاق فوائدها، ولن يقبل بسهولة العودة إلى الوراء.