شهدت دول مجلس التعاون الخليجي تبايناً ملحوظاً في استجابتها للتقلبات العالمية في السياسات الاقتصادية وعدم اليقين المرتبط بها، فضلاً عن التغيرات في معدلات الفائدة الفيدرالية الأميركية، مما يعكس الفروق الاقتصادية بين كل دولة على حدة
وبحسب دراسة صادرة عن «المجلة الدولية للاقتصاد والقضايا المالية» (International Journal of Economics and Financial Issues) تحت عنوان «التأثير غير المتماثل لعدم اليقين في السياسة الاقتصادية في الطلب على النقد في دول مجلس التعاون الخليجي» (The Asymmetric Impact of Economic Policy Uncertainty on the Demand for Money in the GCC Countries)، فإنّ هذه التفاوتات ترجع إلى عوامل متعددة تشمل طبيعة البنية النقدية، ومستوى التنويع الاقتصادي، ومدى ترابط كل دولة مع الأسواق العالمية.
فيما يتعلق بالإمارات العربية المتحدة، تبيّن أنّ ارتفاع مستوى عدم اليقين العالمي في السياسة الاقتصادية يدفع المتعاملين إلى تقليل حيازتهم للنقود، واحتمال توجيهها نحو الأصول العقارية أو فرص الاستثمار الملموسة، كنوعٍ من التحوّط ضد المخاطر. غير أنّ انخفاض حالة عدم اليقين لم يُظهر تأثيراً واضحاً على استعادة الثقة بالنقد، وهو ما قد يشير إلى استمرار حالة من الحذر أو عدم اليقين الداخلي الذي لا يتغير بمجرد تحسّن المؤشرات العالمية.
يعكس هذا التوجه الطبيعة الديناميكية لاقتصاد الإمارات، حيث تتخذ القرارات الاستثمارية طابعاً طويل المدى؛ ما يجعل ردود الفعل تجاه تقلص حالة عدم اليقين أكثر تحفظًا مقارنة بردّ الفعل تجاه زيادتها. في الوقت ذاته، تسهم قطاعات العقارات والسياحة والخدمات المالية في تنويع القاعدة الاقتصادية للإمارات؛ ما قد يخفف التأثير المباشر للتقلبات العالمية، ولكنه لا يمنع تراجع الطلب على النقود في اللحظات التي يسود فيها القلق العالمي.
ويوضح الباحثون أنّ البحرين لم تُظهر تأثراً واضحاً بتغيرات معدلات عدم اليقين أو الفائدة الفيدرالية؛ ما قد يُعزى إمّا إلى سياسات نقدية ناجحة تحدّ من انعكاس الاضطرابات الخارجية على سلوك المستهلكين والمستثمرين، وإمّا إلى طبيعة سوق محلي أقل حساسية للتقلبات العالمية.
في المقابل، ارتبط سلوك الطلب على النقود في الكويت بانخفاض معدلات الفائدة الفيدرالية، إذ لوحظ أنّ الأفراد والمؤسسات يفضّلون الاحتفاظ بمزيد من النقود عندما تنخفض تكاليف الفرصة البديلة، في حين لا يبدو تأثير ارتفاع هذه المعدلات بالوضوح نفسه.
أما سلطنة عُمان، فقد أظهرت استجابة عكسية، حيث سجّلت الدراسة زيادة في الطلب على النقود مع ارتفاع الفائدة الفيدرالية؛ ما يوحي بوجود عوامل خاصة، ربما تتعلق بتوقّعات تضخمية أو بأنماط الادخار السائدة.
وفي قطر والمملكة العربية السعودية، أدّت الزيادة في معدلات الفائدة إلى تراجع مستمرّ في الطلب على النقود، إذ يميل المستثمرون والأفراد إلى تفضيل الأصول ذات العائد المرتفع أو حتى الأصول الحقيقية، بدلاً من الاحتفاظ بالسيولة التي تصبح مكلفة مقارنة بالعوائد البديلة المتاحة. لكن اللافت في النتائج أنّ انخفاض الفائدة لا يُترجم مباشرةً إلى زيادة مماثلة في الاحتفاظ بالنقود، إذ تظل هناك مخاوف أو توقعات بشأن دورات ركود اقتصادي محتملة؛ ما يجعل الثقة في سوق النقود أقل استقراراً.
وتنطلق الدراسة من فرضية أن دول مجلس التعاون الخليجي تتأثر بالسياسة النقدية الأميركية؛ بسبب ربط عملاتها بالدولار؛ ما يعني أن أي تغيير في معدل الفائدة الفيدرالية ينعكس حتماً على البنوك المحلية وسلوك الأفراد في هذه الدول. وتزداد الصورة تعقيداً عند إضافة عنصر عدم اليقين في السياسة الاقتصادية العالمية، والذي قد يرتبط بأزمات جيوسياسية أو تقلبات في أسعار الطاقة أو تحولات حادة في الطلب العالمي. وتشير النتائج إلى أنّ كل دولة تتبنّى أنماطاً مختلفة للتعامل مع هذه الظروف، مستفيدةً من أدوات نقدية مختلفة، ومن مستويات متباينة من الانفتاح الاقتصادي والتنويع.
اعتمدت الدراسة على نموذج «أيه آر دي إل غير الخطي» (Nonlinear ARDL) لتحليل التفاعل الديناميكي بين معدلات الفائدة الفيدرالية ومؤشر عدم اليقين في السياسة الاقتصادية من جهة، وسلوك الطلب على النقود من جهةٍ أخرى.
هذه المقاربة التحليلية تسمح بالتفرقة بين تأثيرات الارتفاع والانخفاض في المؤشرات قيد الدراسة، بدلاً من الافتراض المسبق بتماثل الاستجابة في الحالتين. ومن شأن هذا الأسلوب أن يمنح صانعي القرار قراءات أكثر دقة حول مدى حساسية الأسواق المحلية تجاه الصدمات الخارجية، كما يمكّنهم من اتخاذ قرارات مبنية على طبيعة سلوك كل دولة في فترات الاضطراب.
وترى الدراسة أنّ هذه التفاوتات تستلزم سياسات نقدية ومالية مرنة تواكب تحديات الأسواق العالمية، مع مواصلة العمل على تقوية الأسس الاقتصادية المحلية، وتنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط.
ويُفترض أن يساعد ذلك على تعزيز قدرة كل دولة خليجية في امتصاص الصدمات التي قد تنتج عن تغيّرات حادة في معدلات الفائدة الأميركية، أو في مستويات عدم اليقين على الصعيد الدولي. ويوصي الباحثون بضرورة مواصلة الجهود البحثية لرصد هذه التأثيرات على المدى الطويل، نظراً لأهمية ديمومة النمو والاستقرار النقدي بالنسبة لاقتصادات المنطقة.