رغم أن الأنظار توجهت إلى تداعيات الرسوم الجمركية الجديدة على العلاقة بين واشنطن وبكين، إلا أن زاوية أخرى باتت أكثر إثارة للاهتمام: هل تشكّل هذه الرسوم فرصة استراتيجية لدول الخليج؟
في ظل الإعفاءات على الطاقة والبتروكيماويات، والانخفاض الموازي في أسعار النفط، تتغيّر ملامح الاقتصاد الإقليمي. وبينما تنسحب شركات من أسواق العجز التجاري مع أميركا، تتحرك الصين وتعيد التموضع، وقد يكون الخليج هو المستفيد الأكبر، وفقاً لتقرير «تأثير الرسوم الجمركية الأميركية على سوق مشاريع دول مجلس التعاون الخليجي» الصادر عن مؤسسة MEED المتخصصة بالتقارير الاقتصادية الخاصة بالشرق الأوسط.
وكان الرئيس دونالد ترامب قد أعلن في 2 أبريل 2025 عن مرسوم تنفيذي يفرض تعريفات جمركية «متبادلة» على الواردات، مستهدفاً بذلك دولاً يُعتقد أنها تُسهم في العجز التجاري الأميركي المستمر في قطاع السلع. هذه الإجراءات قد تبدو عقابية في ظاهرها، إلا أن آثارها الاقتصادية تذهب أبعد من واشنطن وبكين، لتصل إلى الشرق الأوسط، وبالتحديد دول الخليج، وفقاً لـMEED.
بموجب القرار الأميركي، تم اعتماد معادلة لتحديد الرسوم الجمركية على كل دولة، تقوم على تقسيم العجز التجاري الثنائي على اثنين، ثم تحديد نسبة مئوية تُطبَّق كتعريفة.
على سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة على الصين رسوماً جمركية ابتدائية بنسبة 34% زادت لاحقاً إلى 145%. أما الدول ذات العجز الطفيف أو الفائض التجاري مع أميركا، كالإمارات والسعودية، فطُبّقت عليها رسوم أساسية بنسبة 10%، وفقاً لـMEED.
لكن ترامب أعلن عن استثناءات لعدد من السلع والخدمات من هذه التعريفات، منها: النفط والغاز، المعادن غير المتوفرة في أميركا، الأدوية، الطاقة، الذهب والفضة، ومعظم الخدمات؛ ما يخفف وطأة القرار على دول تعتمد على صادرات الطاقة كدول الخليج، وفقاً لـ MEED.
من منظور تجاري، فإن انكشاف دول الخليج على السوق الأميركي محدود نسبياً، فباستثناء البحرين، لا تتجاوز صادرات أي من دول مجلس التعاون الخليجي إلى الولايات المتحدة 5% من إجمالي صادراتها، كما تُظهر بيانات التجارة لعام 2024، وفقاً لـ MEED.
على سبيل المثال، لا تمثل صادرات السعودية إلى الولايات المتحدة سوى 2.2% من إجمالي صادراتها، بينما تبلغ الواردات الأميركية 10.6% من إجمالي وارداتها. في المقابل، تملك الولايات المتحدة فائضاً تجارياً مع معظم دول المنطقة، باستثناء العراق، وفقاً لـMEED.
والأهم من ذلك، أن النفط والغاز والبتروكيماويات - التي تشكل العمود الفقري للصادرات الخليجية - أُعفيت من الرسوم. هذا يعني أن التأثير المباشر على الصادرات الخليجية سيكون هامشياً. ويُضاف إلى ذلك أن الألومنيوم والصلب يخضعان فعلياً لتعريفة مستقلة تبلغ 25%، وفقاً لـMEED.
ما قد يضر المنطقة فعلياً هو ما نتج عن القرار: انخفاض أسعار النفط بنحو 10 دولارات للبرميل خلال الأسبوع الأول من أبريل، وفقاً لـMEED.
فقد انخفض متوسط سعر خام برنت من 74.49 دولار في 1 أبريل إلى نحو 64.88 دولار في 14 أبريل. ويشكّل هذا الانخفاض تهديداً مباشراً للإيرادات الحكومية، خصوصاً أن السعر اللازم لتحقيق التوازن المالي في معظم الدول الخليجية يتجاوز بكثير هذا الرقم.
فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر التعادل المالي المطلوب للسعودية 90.9 دولار للبرميل في عام 2025، والبحرين 124.9 دولار، وفقاً لـ MEED.
في 2014، أدت صدمة انخفاض أسعار النفط من أكثر من 100 دولار إلى أقل من 30 دولاراً خلال أشهر إلى ركود شبه كامل في عقود المشاريع بالمنطقة. لم يبدأ الإنفاق بالتعافي إلا بعد صعود الأسعار مجدداً بعد جائحة كوفيد، وفقاً لـMEED. ويبدو أن ما يحدث الآن قد يعيد السيناريو ذاته، خاصة وأن هناك تأخيراً زمنياً يقدر بنحو 12 شهراً بين انخفاض الأسعار وتراجع فعلي في العقود الجديدة.
البيانات تعزز هذا الطرح: فعندما كان سعر النفط بحدود 57 دولاراً بين 2016 و2021، بلغ متوسط العقود السنوية الممنوحة في الخليج نحو 117 مليار دولار فقط، مقابل أكثر من 250 مليار دولار سنوياً في 2023 و2024، حين كانت الأسعار أعلى من 80 دولاراً، وفقاً لـMEED.
في المقابل، تُعد الصين أبرز المستفيدين غير المباشرين. إذ أصبحت أكبر مستثمر في مشاريع البنية التحتية والطاقة بالمنطقة، مدفوعة بمبادرة «الحزام والطريق».
في العام 2024 وحده، بلغت استثمارات الصين في مشاريع جديدة (Greenfield FDI) بدول الخليج والعراق ومصر نحو 18 مليار دولار، مقابل أقل من 3 مليارات للولايات المتحدة، وفقاً لـ MEED.
كما تُظهر البيانات أن 90% من العقود في قطاع الإنشاءات ذهبت لشركات صينية في 2024، مقارنة بنحو 2% فقط للشركات الأميركية. وعلى مستوى الخدمات الاستشارية، تظل الولايات المتحدة مهيمنة بنسبة 98%، لكن هذه الخدمات معفاة من الرسوم الجمركية، وفقاً لـ MEED.
من جهة أخرى، تستورد المنطقة خمسة أضعاف ما تستورده من أميركا من معدات ومواد بناء من الصين. ففي العام 2024، بلغت قيمة واردات المعدات الصينية لدول الخليج ومصر والعراق والأردن نحو 43 مليار دولار، مقارنة بـ10 مليارات فقط من الولايات المتحدة. وهذا يعني أن الرسوم الأميركية سيكون لها تأثير ضئيل على تكاليف المشاريع في المنطقة، وفقاً لـMEED.
رغم الضبابية، تبرز زاوية غير متوقعة: هذه الرسوم قد تحوّل دول الخليج إلى ملاذ استثماري للدول المتضررة من التعريفات المرتفعة، وخاصة في القطاعات كثيفة الطاقة كالهيدروجين الأخضر، البتروكيماويات، والصلب. وإذا ما استثمرت الحكومات الخليجية هذه اللحظة جيداً، فقد تعيد رسم خريطة الاستثمارات الصناعية في المنطقة، وفقاً لـ MEED.
في خلاصة الأمر، لا تقف الرسوم الأميركية عند حدود تبادل البضائع، بل تعيد تشكيل خرائط النفوذ الصناعي والتجاري عالمياً. وبينما تخسر قوى، قد تربح أخرى. والخليج، في موقعه الجغرافي وتكوينه الاقتصادي، يقف اليوم أمام مفترق طرق قد يحوله من مُصدّر خام إلى مركز تصنيع عالمي.