عشر سنوات من الحرب تركت بصماتها العميقة على سوريا، فاقتصاد البلاد على وشك الانهيار، والناتج المحلي الإجمالي تراجع إلى أقل من نصف مستواه قبل الحرب. في ظل هذا الواقع القاسي، تزايدت معدلات الفقر والنزوح بشكل غير مسبوق، مما يثير السؤال الأبرز: كيف يمكن لسوريا أن تنهض مجدداً، وتعيد بناء ما دمرته الحرب؟
إحدى الإجابات الأكثر إلحاحاً تكمن في مسألة «إعادة هيكلة الديون».
وفقاً لتقديرات البنك الدولي لعام 2023، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لسوريا حوالي 17.5 مليار دولار، وهو تراجع كبير مقارنة بما كان عليه قبل الحرب. في المقابل، تشير تقديرات الحكومة السورية الجديدة إلى أن الدين الخارجي يتراوح بين 20 و23 مليار دولار، لكن بعض التقارير تشير إلى أن الرقم قد يكون أكبر بكثير، وقد يصل إلى حوالي 50 مليار دولار. الأسوأ من ذلك، أن معظم هذا الدين مستحق لروسيا وإيران، ما يضيف طبقة من التعقيد في المفاوضات حول كيفية معالجة الأزمة.
ورغم أن هذه الأرقام قد تكون مقلقة، إلا أن ما يهم هو أن الديون السورية أصبحت عبئاً غير مستدام. ومن الصعب أن تستمر سوريا في سداد هذه الديون في ظل وضعها الاقتصادي الحالي، ما يعني أن إعادة هيكلة الديون باتت أمراً لا مفر منه.
إعادة هيكلة الديون السورية ليست مهمة سهلة، بل هي عملية شديدة التعقيد. أحد أكبر التحديات التي تواجهها سوريا هو غياب الشفافية في حجم الديون الحقيقية. فالأرقام المتعلقة بحجم الدين تختلف بين الحكومة السورية الجديدة والعديد من الدائنين، مثل روسيا وإيران، ما يثير تساؤلات حول الأرقام الفعلية. في ظل هذه التباينات، يصبح التفاوض على حجم الدين الحقيقي والموافقة على خطة لإعادة هيكلته أمراً بالغ الصعوبة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم الديون السورية مستحقة لروسيا وإيران، وهما دولتان لهما مصالح جيوسياسية معقدة في سوريا. هذا يزيد تعقيد المفاوضات، حيث لا يتعامل الجانب السوري مع مؤسسات مالية دولية فحسب، بل مع دول قد تضع شروطاً سياسية معينة في أي مفاوضات حول تسوية الديون.
مشكلة أخرى تكمن في سعي بعض الأوساط داخل سوريا إلى تصنيف بعض الديون على أنها «ديون بغيضة» أو «ديون غير قانونية»، وهو مبدأ لم يتم الاتفاق عليه دولياً بعد. إذا حدث ذلك، فقد يؤدي إلى رفض المانحين الدوليين تقديم أي مساعدات مالية لسوريا في المستقبل إذا كان من المقرر أن تُستخدم هذه المساعدات لسداد الديون المستحقة لروسيا وإيران.
تجربة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 قد تكون ذات صلة بسوريا. حينها، كان العراق مثقلاً بديون ضخمة بلغت 160 مليار دولار، وهو ما يعادل 573% من الناتج المحلي الإجمالي. بعد سقوط النظام، أجرى العراق مفاوضات طويلة ومعقدة مع الدائنين الدوليين، بما في ذلك نادي باريس وصندوق النقد الدولي. في النهاية، تم الاتفاق على شطب جزء كبير من الديون العراقية، وهو ما وفر للعراق فرصة لإعادة البناء الاقتصادي.
لكن المقارنة مع الحالة السورية ليست مباشرة، فالعراق كان يحظى بدعم دولي واسع، وهو ما لا يبدو متاحاً لسوريا اليوم. بينما العراق تمكن من الحصول على إعفاءات ديون بمساعدة من مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، فإن سوريا تواجه عزلة سياسية وعقوبات اقتصادية تعقد أي مسعى للتفاوض. إضافة إلى ذلك، فإن الوضع الجيوسياسي في سوريا أكثر تعقيداً، حيث تتداخل المصالح الدولية في الملف السوري.
الأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة قد تكون مترددة في دعم أي اتفاق من شأنه أن يسهل حصول روسيا على أي فائدة من إعادة هيكلة الديون.
إعادة هيكلة ديون سوريا تتطلب خطوات عملية جادة وموافقة دولية. أولاً، يجب على الحكومة السورية البدء بمراجعة شاملة للديون بالتعاون مع مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذا يتطلب التنسيق مع الدول الكبرى لضمان دعمها، بحسب تحليل أجراه معهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
يمكن لسوريا أن تسعى إلى فصل ديون الحرب عن الديون الأخرى واعتبارها غير ملزمة قانوناً، لكن هذا يتطلب مفاوضات مع الدول الدائنة. ومن الخيارات المطروحة أيضاً تصنيف بعض الديون، مثل تلك المستحقة لروسيا وإيران، كمنح بدلاً من قروض. كما يمكن اللجوء إلى نهج متعدد الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة، كما حدث مع العراق، لضمان حماية الأصول الخارجية لسوريا ومنع فرض مطالب قانونية من الدائنين التجاريين.
إعادة هيكلة ديون سوريا باتت ضرورية إذا أرادت البلاد النهوض مجدداً. أي دعم مالي يجب أن يُستخدم في إعادة الإعمار، وليس لسداد الديون المستحقة لإيران وروسيا، وسوريا بحاجة إلى بناء تحالفات دولية قوية وضمان أن أي خطوات إصلاحية ستكون حقيقية وملموسة.
قد تكون الحلول غير واضحة الآن، لكن لا بد من التوصل إلى مسار يعيد لسوريا بعضاً من استقرارها الاقتصادي.