لم يكن التونسي الأربعيني، محمد بلعيد، يتوقع أن تتحول أحلامه بغدٍ أفضل إلى كابوس اقتصادي يهدد استقرار حياته اليومية، فبعد مرور 14 عاماً على انتفاضة 2010، يجد نفسه عاجزاً عن تأمين احتياجات أسرته الأساسية وسط أعباء اقتصادية متصاعدة وتراجع في قيمة الدينار وحجم الاستثمارات، إلى جانب ارتفاع غير مسبوق في معدلات الدين العام مقارنة بما كانت عليه الأوضاع سابقاً.
قفز الدين العام الذي كان يبلغ 25.6 مليار دينار (8.5 مليار دولار) في 2010، أي ما يعادل 40.7% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى نحو 102.2 مليار دينار (34 مليار دولار) بنهاية أكتوبر 2021، مع توقعات بتجاوزه 140 مليار دينار (45.1 مليار دولار) في نهاية 2024، ليشكل بذلك نحو 79.8% من الناتج المحلي الإجمالي، بما يعكس حجم التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد.
يعاني الاقتصاد التونسي من تراجع في معدلات النمو منذ اندلاع الانتفاضة التي أشعل شرارتها محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر 2010 قبل أن تمتد إلى أنحاء البلاد، وفق حديث الخبير المالي ومؤسس شركة (AWT Audit & Conseil)، أنيس الوهابي مع «إرم بزنس» الذي اعتبر أن هناك الآلاف مثل «بلعيد» بات واقعهم في غاية السوء مع تعاقب حكومات أساءت قيادة دفة البلاد.
وتراجع النمو الاقتصادي بشكل كبير إلى 0.4% خلال العام الماضي، مقارنة بالفترة التي سبقت اندلاع الانتفاضة، حين كانت البلاد تحقق معدلات نمو تراوحت بين 4 و5% خلال عامي 2010 و2011، وفقاً لبيانات معهد الإحصاء الوطني التونسي.
وكنتيجة لذلك، انخفضت الاستثمارات المحلية بشكل حاد، لتهوي نسبة الاستثمارات إلى الناتج المحلي الإجمالي من 25% في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى أقل من 10% في 2023، وفق الوهابي.
كما انخفضت أيضاً الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 3.3 مليار دولار في العام 2006 إلى 714 مليون دولار فقط في 2023، وفقاً لبيانات البنك الدولي، فيما بلغت 453 مليون دولار في النصف الأول من 2024.
يرى الخبير المالي أن الاختلالات الكبيرة في المالية العامة خلال السنوات الماضية قيدت قدرة الحكومة على التحرك الفعال، ومع استمرار تراكم المتأخرات وازدياد أعباء الديون، يزداد الوضع المالي سوءاً.
بالإضافة إلى عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي أدى إلى زيادة الاعتماد على الاقتراض المحلي، ودفع بالقطاع الخاص إلى مزيد من التراجع؛ ما عمق الركود الاقتصادي في البلاد، وفقاً للخبير المالي.
وزاد حجم الاقتراض الداخلي في تونس بـ 1.3 مليار دولار بين عامي 2022 و2023، كما تخطط الحكومة لاقتراض 11.743 مليار دينار (3.745 مليار دولار) إضافية من السوق المحلية لتغطية فجوة مالية تبلغ 28.708 مليار دينار (9.155 مليار دولار.
ويعتقد الوهابي أن الركود الاقتصادي يُشكّل تهديداً خطيراً للأسس التي يقوم عليها الاقتصاد التونسي؛ ما يُعرض آفاق النمو الاقتصادي على المدى الطويل للخطر، في ظل ارتفاع معدلات البطالة.
وبلغت نسبة البطالة في تونس نحو 13% خلال العام 2010، وفقاً للبيانات الرسمية، ومع نهاية الربع الثاني من العام 2022 ارتفعت النسبة إلى 17.9%، بينما تراجعت تدريجياً لتصل في الربع الأول من 2024 إلى 16.2%.
حسب الخبير المالي أنيس الوهابي، تعود جذور المشكلة إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حينما فشلت البلاد في رفع إنتاجيتها بشكل كافٍ لمواكبة توسع الأسواق العالمية، وهو ما أدى إلى أداء اقتصادي أقل من المتوسط العالمي للبلدان ذات الدخل المتوسط.
وتفاقم هذا الوضع مع عدم كفاية فرص العمل لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل وتحقيق زيادات ملموسة في الدخل؛ ما ساهم في تأجيج الغضب الشعبي الذي أدى إلى انتفاضة العام 2011.
ولكن، على مدى العقد الماضي، تفاقمت هذه التحديات بسبب التأخر في تنفيذ الإصلاحات واستمرار الأزمات الخارجية والاضطرابات السياسية التي عانتها البلاد بعد الثورة؛ ما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي بمعدل لم يتجاوز 0.6% خلال النصف الأول من العام الجاري.
وبحسب حديث الباحثة المستقلة ألفة السلامي مع «إرم بزنس»، انعكس هذا الوضع على أداء القطاع الخاص، الذي يُعد العمود الفقري لتوليد فرص العمل وزيادة الدخل.
وباعتقاد السلامي، فإن لجوء الحكومة إلى الاقتراض الداخلي أسفر عن تنافس مباشر مع القطاع الخاص على التمويل؛ ما أدى إلى انخفاض إجمالي حجم الائتمان الممنوح للقطاع الخاص من 90% من الناتج المحلي الإجمالي قبل 2011 إلى 76% في منتصف العام 2023.
رغم تحقيق تونس لفائض مالي قبل 2010، تشير الباحثة إلى أنه منذ العام 2011، تسجل تونس عجزاً مالياً سنوياً بلغ متوسطة 4% من الناتج المحلي الإجمالي، ثم ارتفع إلى 9% خلال الفترة 2020-2023 بسبب جائحة كورونا، مع توقعات بانخفاضه إلى 6.5% في 2024.
وتتوقع الحكومة ارتفاع إجمالي الدين العام المتراكم بحلول نهاية العام الحالي إلى نحو 140 مليار دينار (45.17 مليار دولار)، وهو ما يمثل نحو 79.8% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 127 مليار دينار (41 مليار دولار) في العام السابق.
وأدى تزايد أعباء الدين العام والعجز في تونس بشكل كبير إلى تقليص القدرة على تخصيص الموارد لتطوير القطاعات الإنتاجية، خاصة الصناعات الموجهة للتصدير التي تأثرت بشكل خاص، حيث انخفضت نسبة المنتجات ذات القيمة المضافة من 25.2% في 2010 إلى 20% في 2023، كما توضح الباحثة.
تؤكد السلامي أن السياسات الاقتصادية والمالية التي نفذتها الحكومات السابقة طيلة السنوات الماضية كانت في مجملها غير موفقة؛ ما أدى إلى ارتفاع نسب الاقتراض، ونتيجة لذلك، شهد الدينار التونسي تراجعاً ملحوظاً أمام العملات الأجنبية.
وتراجع سعر الصرف في تونس منذ العام 2011، من 1.33 دينار مقابل الدولار الواحد في يناير 2010، إلى 3.18 ديناراً مقابل الدولار وفق التداولات الحالية.
من جانبه، يوضح أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة نابل، آرام بلحاج، أن تونس تعرضت منذ اندلاع الثورة إلى سلسلة من الأزمات الوطنية والعالمية التي أثرت بشكل كبير على نمو الاقتصاد التونسي.
خلال الفترة الممتدة من بداية الألفية وحتى اندلاع الثورة (17 ديسمبر 2010 - 14 يناير 2011)، حقق الاقتصاد التونسي معدلات نمو تجاوزت 5%. ولكن هذه النسبة تراجعت بشكل ملحوظ إلى 3.1% في العام 2021، وفقاً لبيانات رسمية.
وفي بيان صادر عن الحكومة التونسية السابقة في 17 نوفمبر 2023، توقع رئيس الوزراء حينها أحمد الحشاني أن يصل معدل النمو الاقتصادي إلى 1.2% في العام 2023، مع إمكانية ارتفاعه إلى 3% في عام 2024.
ويرى بلحاج خلال حديثه مع «إرم بزنس» أن الإشكالية الأكبر تتمثل في غياب تحرير الاقتصاد نتيجة التجاذبات السياسية التي عانتها البلاد بعد الثورة، وحالت دون تقديم تصورات موحدة لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية اللازمة.
ويشير بلحاج إلى أنه رغم وجود محاولات لتحديث المنظومة التشريعية الاقتصادية، لكنها لم تحدث تغييرات فعلية بسبب عدم تفعيلها بالشكل المطلوب.
وباعتقاد أستاذ العلوم الاقتصادية، فإن الاقتصاد التونسي رغم إخفاقاته قبل الثورة، لكن مؤشراته كانت أفضل مقارنة بالأوضاع الحالية التي تعاني انخفاضاً في قيمة الدينار، وارتفاع التضخم، وتفاقم الديون، وتباطؤ النمو.
وفقاً لمشروع قانون موازنة تونس لعام 2025، من المتوقع أن يتضاعف حجم القروض المحلية ليبلغ 7.08 مليار دولار، مقارنة بـ 3.57 مليار دولار في العام الماضي، وذلك ضمن الجهود المبذولة لتمويل الميزانية.
كما ارتفع التضخم لأعلى مستوى في 30 عاماً في شهر فبراير 2023، عند مستوى 10.4%، مقارنة بـ 3% في العام 2010، وذلك بحسب البيانات التاريخية لتضخم أسعار المستهلك المسجلة في البلاد، فيما سجل التضخم في نوفمبر الماضي 6.6%.
ويشدد بلحاج على ضرورة وضع حلول عملية وشاملة لتحسين الوضع الاقتصادي، لا سيما وأن الاقتصاد التونسي دخل منذ يناير 2011 في أزمة ثقة؛ بسبب ارتفاع حجم الديون التي ترافقت مع غياب القرارات الإصلاحية الضرورية؛ ما أثر بشكل كبير على الأداء الاقتصادي العام.