مع استعداد الولايات المتحدة وروسيا لإجراء مفاوضات حاسمة حول أوكرانيا وأمن أوروبا، يجد القادة الأوروبيون أنفسهم في مواجهة واقع صعب يتمثل في تراجع نفوذهم على الساحة العالمية. ومع تصاعد الشكوك من واشنطن وموسكو على حد سواء، أصبحت قدرة القارة على رسم مستقبلها الأمني موضع تساؤل.
وقال وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي، بنجامين حداد، في مؤتمر ميونيخ للأمن: «الرسالة واضحة: حان الوقت لتحمل مسؤولياتنا وحماية أمننا. أول اختبار سيكون رفض الاستسلام في أوكرانيا».
إلا أن تحقيق هذا الهدف، بحسب تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال»، يتطلب تغييراً جذرياً في النهج الدفاعي الأوروبي، بما يشمل زيادة الإنفاق العسكري، وتعزيز التماسك السياسي، والاعتراف بأن «التحالف العابر للأطلسي»، الذي شكل دعامة الأمن الأوروبي منذ عام 1945، قد لا يكون بالقدر نفسه من الموثوقية.
وفي حين أن سياسة ترامب الخارجية لا تزال غير واضحة وغير مكتملة بالنسبة للعديد من حلفاء الولايات المتحدة، يبدو أن الرئيس مصمم على إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، حتى لو تطلب الأمر تقديم تنازلات كبيرة من كييف وتحقيق مكاسب استراتيجية لروسيا.
ويرتبط هذا الاستعجال جزئياً برغبة ترامب في إضعاف العلاقات المتنامية بين روسيا والصين، وهي رؤية يرفضها المسؤولون الأوروبيون باعتبارها غير واقعية ومضللة. وقال نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس في مقابلة حديثة مع «وول ستريت جورنال»: «لا يصب في مصلحة بوتين أن يكون الشريك الأضعف في تحالف مع الصين».
أحد أبرز المخاوف لدى صانعي القرار في أوروبا هو مدى موثوقية الولايات المتحدة كحليف، حيث أكد نيكو لانغه، المسؤول الألماني السابق في وزارة الدفاع والباحث في مؤتمر ميونيخ للأمن، قائلاً: «السؤال الأهم للجميع هو: هل يمكننا الوثوق بالولايات المتحدة؟ بعد عشر سنوات من الإنذارات المتكررة، قد يكون الإنذار المقبل للأوروبيين عبارة عن صافرة غارة جوية».
ويأتي هذا التحدي في لحظة سياسية غير مستقرة؛ إذ تشهد ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، انتخابات دون حكومة مستقرة، بينما تعاني فرنسا من إدارة أقلية هشة. وفي الوقت نفسه، اتبعت دول مثل المجر وسلوفاكيا نهجاً تصالحياً تجاه موسكو.
وقال وزير الخارجية الليتواني السابق، غابريليوس لاندسبيرغيس خلال المؤتمر: «الجميع يدرك أن هذه لحظة حاسمة لأوروبا، لكن السؤال هو: هل ستكون الصدمة كافية لإيقاظ المريض؟ أخشى أن تكون الصدمة قاتلة».
لطالما اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أوروبا لاعب ضعيف في الجغرافيا السياسية، رغم تفوقها الاقتصادي والديموغرافي على روسيا. وفي تصريحات في وقت مبكر من هذا الشهر، أشار إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد «يعيد النظام» في أوروبا، مؤكداً أن الدول الأوروبية ستخضع للقيادة الأميركية. وسارع ترامب إلى الترويج لتصريحات بوتين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فانس عزز هذا الطرح، معتبراً أن التهديد الرئيس لأوروبا ليس روسيا أو الصين، بل الهجرة الجماعية ورفض النخب السياسية للأحزاب اليمينية المتطرفة. وأثارت تصريحاته استياء عدد من المسؤولين الأوروبيين الذين غادروا القاعة احتجاجاً.
في الوقت ذاته، أعلن الملياردير إيلون ماسك دعمه للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، ولا سيما حزب «البديل من أجل ألمانيا».
في خطوة تعكس تراجع دور أوروبا، استبعد المبعوث الأميركي الخاص لأوكرانيا، الجنرال المتقاعد كيث كيلوغ، مشاركة الأوروبيين في المفاوضات حول مستقبل أوكرانيا. وفي حين تتوقع واشنطن أن تتولى القوات الأوروبية تطبيق وقف إطلاق النار وتمويل إعادة إعمار أوكرانيا، شدد كيلوغ على أن التجارب الدبلوماسية السابقة، مثل اتفاقية «مينسك 2» لعام 2015 بقيادة ألمانيا وفرنسا، تبرر استبعاد أوروبا من المحادثات.
وأعربت وزيرة الخارجية السويدية ماريا مالمر ستينرغارد عن قلقها حيال غياب مشاركة بلادها في المفاوضات المتعلقة بالتنفيذ الميداني في أوكرانيا، مشيرة إلى أنه «إذا كنا نحن من سيتولى التنفيذ على الأرض، فمن الضروري أن نكون جزءاً من المفاوضات. نرجوكم أن تسمحوا لنا بالمشاركة».
إلا أن المسؤول الأميركي كيلوغ رفض هذا الطرح، قائلاً: «لم يُخصص تمثال في أميركا لأي لجنة»، في إشارة إلى أن اللجنة السويدية أو ممثليها ليس لهم تمثيل أو دور بارز في الولايات المتحدة، وهو ما يعكس عدم موافقته على منح السويد دوراً استثنائياً في المفاوضات.
في الوقت الذي تقلل فيه واشنطن من أهمية الدور الأوروبي، تسعى الصين إلى تقديم نفسها كشريك محتمل لأوروبا وأوكرانيا. وأكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي، خلال مؤتمر ميونيخ، التزام بلاده بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وهي رسائل تَروق القادة الأوروبيين القلقين من السياسات الأميركية.
وعلى هامش المؤتمر، التقى وزير الخارجية الأوكراني نظيره الصيني، حيث أكد وانغ أن «الصين ترى في أوكرانيا صديقاً وشريكاً، وتسعى دائماً لتعزيز العلاقات الثنائية على المدى الطويل». وتشير هذه التحركات إلى تزايد استعداد المسؤولين الأوروبيين والأوكرانيين للنظر في تحالفات بديلة.
يعتقد القادة الأوروبيون على نطاق واسع أن طموحات بوتين تتجاوز أوكرانيا، وأن منحه الوقت لإعادة التسلح، خاصة إذا تم رفع العقوبات كجزء من تسوية سياسية، قد يشكل تهديداً أوسع للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
حذرت رئيسة وزراء الدنمارك، ميته فريدريكسن، من أن أوروبا لم تعد تعيش في حالة سلم حقيقية، قائلة: «الحرب الهجينة هي حرب. هناك خطر كبير في أن تؤدي تسوية تبدو جيدة على الورق إلى منح روسيا فرصة لإعادة التسلح والمواصلة، سواء في أوكرانيا، أو في مكان آخر».
وتقدر التحليلات العسكرية الألمانية أن روسيا، التي بدأت بالفعل في تخزين الذخائر، قد تكون مستعدة لصراع أوسع بحلول عام 2029. وفي هذه الأثناء، تعد القوات الأوكرانية اليوم أقوى من الجيوش المشتركة لألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة، مما يجعلها خط الدفاع الأول عن أوروبا. وإذا أُجبرت أوكرانيا على تقديم تنازلات أو أضعفها اتفاق ترعاه واشنطن، فقد تصبح أوروبا مكشوفة أمنياً بشكل خطير.
وأكد رئيس وزراء كرواتيا، أندريه بلينكوفيتش، أن «إنفاق روسيا 10% من ناتجها المحلي الإجمالي على الجيش، و40% من ميزانيتها على الدفاع، ليس مجرد تحرك قصير الأمد. هذه اقتصادات حرب بأهداف طويلة الأجل. ويجب أن نأخذ ذلك في الاعتبار عند الحديث عن مفاوضات السلام».