يشهد الاقتصاد الروسي وضعاً مغايراً لما هو عليه في معظم الاقتصادات الكبرى حول العالم، فهناك نمو ملحوظ على الرغم من العقوبات الغربية الشديدة والعزلة الدولية المفروضة عليها بسبب النزاع في أوكرانيا، وفي الوقت الذي يعاني فيه العالم تباطؤاً اقتصادياً، خصوصاً في أميركا وكندا إذ ترتفع معدلات البطالة وتضعف ثقة المستهلكين، وفي أوروبا التي تقترب من الركود، يتميز الاقتصاد الروسي بقوة ونمو استثنائيين.
بحسب تقرير نشرته مجلة "إيكونومست" البريطانية، من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا العام الجاري أكثر من 3% بالقيمة الحقيقية، ليتجاوز بذلك أداء 95% من الدول الغنية، وهذا النمو يأتي في وقت تعاني فيه الاقتصادات الكبرى تباطؤاً أو ركوداً، ما يجعل الوضع الاقتصادي الروسي لافتاً للنظر.
وأشار البنك المركزي الروسي إلى أن النشاط الاقتصادي ازداد بشكل ملحوظ في شهري مايو ويونيو الماضيين، كما أظهرت مؤشرات أخرى، أحدها لبنك "غولدمان ساكس"، أن الاقتصاد الروسي يتسارع.
مؤشرات إيجابية
على الرغم من العقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة على الاقتصاد الروسي، وخروج الشركات الأجنبية من السوق المحلية، فإن معدل البطالة في روسيا يقترب من أدنى مستوى له على الإطلاق، ولا يزال الروبل الروسي مستقراً.
وفي حين أن معدل التضخم في يونيو الماضي وصل إلى 8.6%، وهو أعلى بكثير من هدف البنك المركزي البالغ 4%، إلا أن الدخل النقدي للروس ارتفع بنسبة 14% على أساس سنوي، ما زاد قوتهم الشرائية.
كما تعكس هذه الأرقام شعوراً إيجابياً وتفاؤلاً بالاقتصاد بين الروس، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى ارتفاع ثقة المستهلكين إلى مستويات عالية، ما يعزز إقبالهم على شراء السلع الكبرى مثل السيارات والأثاث، بينما تعمر المطاعم بالزبائن.
كيف صمد؟
التحسن الملحوظ في الاقتصاد الروسي لا يمكن تفسيره بشكل كامل من خلال أداء الصادرات، وعلى الرغم من أن البلاد نجحت في تحويل صادراتها إلى أوروبا من النفط والغاز، باتجاه أسواق أخرى، وأن الشركات الروسية حققت أداءً أفضل مما كان متوقعاً في بداية الأزمة الأوكرانية، بيد أن هذا الأداء التصديري لم يكن العامل الأساسي وراء التحسن الاقتصادي، فقد تراجعت أسعار النفط مقارنة بالسنوات السابقة، وانخفضت قيمة الصادرات الروسية، ما يشير إلى أن هناك بعض العوامل الأخرى التي تسهم في هذا التحول الاقتصادي.
تطرق تقرير "إيكونومست"، إلى الإستراتيجية التي اتبعتها الحكومة الروسية للحفاظ على الإنفاق الحكومي، وبدور رئيس في دعم الاقتصاد خلال هذه الفترة.
وتخلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن السياسات التقشفية وزاد الإنفاق الحكومي بشكل كبير، إذ من المتوقع أن تسجل روسيا عجزاً في الميزانية بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي العام الجاري، وهو عجز يمول إلى حد كبير من خلال السحب من الاحتياطيات المالية الضخمة التي تراكمت خلال العقد الماضي.
ويتم توجيه الجزء الكبير من هذا الإنفاق إلى النزاع في أوكرانيا، إذ ارتفع الإنفاق العسكري بنسبة 60% العام الجاري، ما أسهم في زيادة إنتاج الأسلحة والذخيرة، وملأ جيوب المواطنين بالأموال. إلى جانب ذلك، جرى زيادة المعاشات التقاعدية لبعض المستفيدين بنسبة تقارب 10% في يونيو، إضافة إلى الاستثمار الكبير في البنية التحتية، مثل إنشاء طريق سريع بين كازان ويكاترينبورغ.
اتبعت روسيا سياسة نقدية غير تقليدية للتعامل مع التضخم المرتفع، إذ رفع البنك المركزي أسعار الفائدة من 7.5% إلى 18%.
ساعدت هذه السياسة على تقوية الروبل من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية من دول "صديقة" مثل الصين والهند، ما خفض أسعار الواردات، وقلل من تأثير التضخم، كما أن هذه السياسات شجعت المواطنين على الادخار، ما قلل من الإنفاق الاستهلاكي، بحسب تقرير "إيكونومست".
وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة، اتخذت الحكومة الروسية إجراءات لحماية الأسر والشركات من تأثيرات هذه السياسة، مثل تسهيل شروط سداد القروض ومنح إجازات سداد للجنود المشاركين في الحرب، كما استمر الإقراض للمشروعات والأعمال بمعدلات منخفضة، ما ساعد على دعم النشاط الاقتصادي.
كما اعتمدت الحكومة الروسية مجموعة من البرامج الاقتصادية المتنوعة لدعم المستهلكين والشركات في مواجهة التحديات المالية، وفي وقت سابق من العام الجاري، سهلت الحكومة إمكانية تعليق سداد القروض للمستهلكين الذين يثبتون انخفاض دخلهم أو تأثرهم بحالة طارئة، فيما وفرت البنوك إجازات سداد قروض للجنود المشاركين ضمن العمليات العسكرية في أوكرانيا.
إضافة إلى ذلك، حافظ برنامج الرهن العقاري الذي أُغلق مؤخراً على أسعار الفائدة على القروض عند 8%، وهي نسبة أقل بكثير من السعر الحالي المعتمد في السياسة النقدية.
برنامج "الرهن الصناعي" أسهم أيضاً في تقديم قروض للأعمال بأسعار فائدة منخفضة تصل إلى 3% سنوياً. كما مارست الحكومة ضغوطاً على البنوك لعدم رفع أسعار الفائدة بشكل كبير، وفي الحالات التي يتكبد فيها القطاع المالي خسائر نتيجة لذلك، غالباً ما تعوض الدولة الفرق.
أدى هذا التدخل الحكومي إلى نتائج ملموسة، فقد أظهرت البيانات الرسمية أنه في الربع الأول من العام الجاري، أنفقت الأسر 11% من دخلها المتاح على القروض، وهي نسبة مشابهة لما كانت عليه في العام 2021 عندما كانت أسعار الفائدة أقل بكثير. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة التي واجهتها الأسر والشركات خلال العام الماضي، فهذا الارتفاع كان بنحو نصف معدل زيادة سعر الفائدة الرسمي فقط.
في الوقت نفسه، شهد الإقراض الجديد نمواً ملحوظاً، إذ ارتفع الإقراض للشركات بنسبة تتجاوز 20% سنوياً.
ومنذ اندلاع المواجهة الروسية الأوكرانية، نما الإقراض الاستهلاكي غير المضمون بسرعة تتماشى مع سرعة نمو الأجور الاسمية، ما يعكس تأثير هذه السياسات في تعزيز النشاط الاقتصادي.
تحديات مستقبلية
مع الأداء الاقتصادي القوي، يرى تقرير "إيكونومست"، أن هناك تحديات محتملة في المستقبل، فمن المتوقع أن تؤدي محاولات بوتين للحد من تأثيرات ارتفاع أسعار الفائدة إلى زيادة التضخم لفترة أطول من المعتاد، ما قد يؤدي في النهاية إلى غضب شعبي بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة. إضافة إلى ذلك، لا يمكن للحكومة الاستمرار في إدارة عجز في الميزانية إلى الأبد، إذ تشير التقديرات إلى أن الاحتياطيات المالية لروسيا قد تستنزف خلال خمس سنوات إذا استمر الإنفاق على هذا النحو.
يبدو أن الاقتصاد الروسي يستفيد حالياً من الإنفاق الحكومي الكبير والسياسات النقدية غير التقليدية، ما يجعله يتحدى التوقعات العالمية ويواصل النمو. ومع ذلك، يبقى السؤال حول مدى استدامة هذا النمو في ظل التحديات الاقتصادية المحتملة على المدى الطويل.