كشفت وثائق حديثة، يُعتقد أنها سُربت من مصادر داخلية، أو تم العثور عليها في قواعد مهجورة بعد سقوط نظام بشار الأسد، عن النفوذ الاقتصادي الواسع الذي رسخته الفرقة العسكرية الرابعة في الجيش السوري.
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «إيكونوميك تايمز»، أظهرت الوثائق كيف استنزفت هذه الوحدة العسكرية التي قادها شقيق الرئيس السوري السابق ماهر الأسد، موارد البلاد عبر شبكة معقدة من الاستغلال المالي، امتدت إلى مختلف القطاعات الحيوية بشكل منهجي.
وعلى مدار 14 عاماً من الحرب، استغلت الفرقة الرابعة، حالة الدمار والانهيار الاقتصادي في البلاد لتعزيز نفوذها، إذ فرضت سيطرتها على قطاعات رئيسة، واستحوذت على ممتلكات خاصة وعامة بطرق مختلفة، من المصادرة المباشرة إلى الاستيلاء غير الرسمي عبر شبكات محسوبة عليها، ما جعلها قوة اقتصادية موازية للدولة.
لم تقتصر الأنشطة المالية للفرقة الرابعة على تجارة الكبتاغون غير المشروعة، التي تُقدَّر عائداتها بنحو 10 مليارات دولار سنوياً، بل امتدت إلى قطاعات أوسع.
وأحكمت الفرقة سيطرتها على العقارات والسلع والخدمات اللوجستية، إذ استولت على المنازل والمزارع، ونهبت مواد ثمينة من المباني المدمرة، كما فرضت رسوماً غير رسمية على حركة البضائع عبر شبكة واسعة من الحواجز الأمنية، ما عزز نفوذها الاقتصادي خارج إطار الدولة.
الفرقة فرضت نظام حماية قسري، إذ ألزمت الشركات بدفع مبالغ لضمان أمن ناقلات النفط، بما في ذلك تلك القادمة من مناطق خاضعة لجماعات جهادية.
ووفقاً لمصادر مطلعة، لم يكن بالإمكان نقل أي معادن دون موافقتها، بينما أُجبرت الشركات على شراء المواد الخام حصرياً من موردين مرتبطين بدائرة ماهر الأسد، ما عزز قبضتها على هذه القطاعات الحيوية.
أظهرت السجلات المالية التي عُثر عليها في مكاتب الفرقة الرابعة أن مكتبها الأمني امتلك في يونيو 2023 احتياطات نقدية مباشرة بلغت 80 مليون دولار، و8 ملايين يورو، و41 مليار ليرة سورية، ووُصفت هذه المبالغ بأنها «سيولة روتينية»، ما يعكس حجم العمليات المالية التي تديرها الفرقة ومدى نفوذها الاقتصادي.
ورغم أن الجزء الأكبر من ثروة الفرقة الرابعة نجم عن هيمنتها على الاقتصاد المحلي، يرى الخبراء أن مبالغ طائلة جرى تحويلها إلى الخارج، خاصة إلى دول عربية وإفريقية.
في الوقت الذي راكم فيه قادة الفرقة ثروات طائلة، كان السوريون يرزحون تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، إذ تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 90% من السكان يعيشون بأقل من دولارين يومياً.
في المقابل، كشفت وثائق داخلية عن نمط حياة فاخر لمسؤولي الفرقة، شمل امتلاك منازل فاخرة وشحن سيارات باهظة الثمن إلى الخارج، إلى جانب إنفاق عشرات الآلاف من الدولارات على النفقات الشخصية، إذ أظهرت إحدى القوائم أن أحد المسؤولين أنفق ما يقارب 55 ألف دولار خلال 10 أيام فقط.
في الوقت ذاته، عانى الجنود التابعون للفرقة من ضائقة مالية شديدة. ووفقاً للتقارير، لجأ بعضهم إلى التسول في الشوارع، بينما قدم آخرون التماسات للحصول على دعم مالي. في إحدى الحالات، أسفر طلب مساعدة من أحد الجنود عن منحه 500 ألف ليرة سورية فقط، أي ما يعادل نحو 33 دولاراً حينها.
مطلعون سابقون وصفوا الفرقة بأنها «مافيا» مارست سلطتها دون رقابة، مستغلة موارد الدولة لتحقيق مكاسب شخصية، بينما تركت ملايين السوريين في فقر مدقع.
رغم العقوبات الغربية التي استهدفت الشبكات المالية للنظام السوري، استمرت الفرقة الرابعة في العمل كاقتصاد موازٍ ظل محصناً إلى حد كبير من الضغوط الخارجية.
وأقامت الفرقة روابط قوية مع رجال أعمال خاضعين للعقوبات، الذين يزعم أنهم سهلوا بيع النفط إلى إيران والصين. وفي عام 2020، قدم أحدهم مبلغ 6.5 مليون دولار لصندوق الفرقة الرابعة، ما يبرز عمق التشابك المالي بين النخبة الحاكمة والقطاع التجاري.
وفي حين حُظر على المواطنين السوريين إجراء معاملات بالعملات الأجنبية، احتفظت الفرقة الرابعة باحتياطات ضخمة من الدولارات الأميركية، وأجرت عمليات مالية مفتوحة بالعملات الأجنبية، ما ساهم في توسيع الفجوة بين النخبة والسكان الذين يعانون اقتصادياً.
رغم تراجع نفوذ الفرقة الرابعة مع انهيار نظام الأسد، فإن تأثيرها الاقتصادي لا يزال قائماً. فقد شكلت أصولها المصادرة واحتكاراتها التجارية المشهد المالي لسوريا على مدى سنوات.
ويحذر محللون من أن الشبكات الاقتصادية التي أسستها الفرقة قد تستمر بأشكال جديدة، ما قد يؤثر في عملية التعافي الاقتصادي في سوريا بعد الحرب.
كما يعكس امتدادها المالي الواسع، سواء داخلياً أم خارجياً، التحديات طويلة الأمد في تفكيك اقتصاد الظل الذي ترسخ خلال سنوات الصراع.