بعد أسابيع من المفاوضات المكثفة، انهار الاتفاق الذ كان مرتقباً بين واشنطن وكييف، والذي كان من المفترض أن يمنح الولايات المتحدة حصة من المعادن الأرضية النادرة في أوكرانيا مقابل دعم عسكري واقتصادي مستمر.
وكان من المقرر توقيع الصفقة خلال زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن أمس الجمعة، لكن الأحداث الأخيرة التي شملت تصعيداً عسكرياً مفاجئاً على الجبهة الشرقية ورفضاً داخلياً متزايداً في أوكرانيا، قوّضت الاتفاق، تاركةً تداعيات اقتصادية كبيرة على الطرفين وعلى الاقتصاد العالمي.
كان الاتفاق يمثل بالنسبة إلى أوكرانيا بوابة محتملة لتأمين دعم أميركي بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، في وقت تقلص فيه اقتصادها بنسبة 30% منذ بدء الحرب مع روسيا في 2022، وفقاً لتقديرات «مدرسة الاقتصاد في كييف».
احتياطيات المعادن النادرة المقدرة بقيمة 12 تريليون دولار، كانت الورقة الأقوى لكييف في المفاوضات، خصوصاً مع استنزاف مواردها الأخرى. لكن مع انهيار الصفقة، تجد أوكرانيا نفسها أمام خيارين اقتصاديين مريرين: البحث عن شركاء جدد بسرعة، أو الاعتماد على مواردها المحدودة لإعادة الإعمار.
المساعدات الأميركية السابقة وقيمتها 67 مليار دولار أسلحة و31.5 مليار دولار دعماً مالياً، قد تتقلص إذا اعتبرت إدارة ترامب أن أوكرانيا «رفضت صفقة عادلة».
وفي ظل الحرب المستمرة، وبنية تحتية مدمرة، فإن استغلال هذه المعادن محلياً يبقى بعيد المنال، خصوصاً أن معظم المناجم تقع في مناطق محتلة أو قريبة من الجبهة.
بالنسبة إلى واشنطن، كان الاتفاق يهدف إلى تقليص اعتمادها على الصين، التي تسيطر على 60% من إنتاج المعادن النادرة و90% من تكريرها، وفقاً لبيانات «ستاتيستا» عام 2024.
احتياطيات أوكرانيا، التي تشكل 5% من الاحتياطيات العالمية، كانت ستعزز الصناعات الدفاعية والطاقة النظيفة الأميركية، وهي أولوية لإدارة ترامب التي تركز على «الصفقات» كأساس للسياسة الخارجية.
لكن انهيار الصفقة يترك الولايات المتحدة دون مصدر بديل فوري، مما يعرضها لمخاطر سلاسل التوريد في وقت تتصاعد فيه التوترات التجارية مع بكين.
شركات مثل «لأوكهيد مارتن» (Lockheed Martin) و«تسلا»، والتي كانت تأمل الاستفادة من هذه المعادن، قد تضطر الآن إلى البحث عن بدائل في أستراليا أو كندا، وهي خيارات أكثر استقراراً، لكنها أقل وفرة وأعلى تكلفة.
كذلك، فإن انهيار الاتفاق يعزز هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة، مما يفاقم أزمة التوريد للشركات الغربية التي تعاني بالفعل من نقص الليثيوم والنيوديميوم المستخدمين في البطاريات والتوربينات.
أما أوروبا التي كانت تأمل حصة غير مباشرة من الموارد الأوكرانية، فقد تجد نفسها في موقف أضعف، مع استمرار اعتمادها على الواردات الصينية أو الاستثمارات الباهظة في مشاريع محلية.
وبالنسبة إلى دول الخليج، خصوصاً السعودية والإمارات، فإن هذا التطور قد يمثل فرصة غير متوقعة. فاستثمارات السعودية البالغة 186 مليار دولار في الطاقة الخضراء حتى عام 2024، تعتمد على المعادن الحرجة، ومع انهيار الاتفاق الأوكراني، قد تصبح مشاريع التعدين في إفريقيا أو آسيا أكثر جاذبية.
وهذا قد يعزز مكانة الخليج كمركز لمعالجة المواد الخام، لكنه يتطلب تسريع الجهود للتغلب على التحديات اللوجستية والتنافس مع الصين.
خسرت أوكرانيا فرصة لتدفق استثماري فوري قد يصل إلى مليارات الدولارات عبر صندوق إعادة الإعمار المشترك المقترح، لكنها تجنبت تسليم أصول استراتيجية قد تكون ضرورية لانتعاشها بعد الحرب.
ويكمن التحدي الآن في إيجاد شركاء بدلاء في أوروبا أو الهند، لكن ذلك يتطلب استقراراً أمنياً غير مضمون.
وفي المقابل فشلت الولايات المتحدة في تحقيق هدفها بتأمين 5% من الاحتياطيات العالمية، مما قد يكلفها مكاسب اقتصادية محتملة تصل إلى عشرات المليارات على المدى الطويل (بناءً على قيمة السوق الحالية للمعادن النادرة). لكنها تجنبت مخاطر استثمارية قد تتجاوز العائدات في ظل الحرب.
كذلك، فإن استمرار اعتماد الاقتصاد العالمي على الصين، يرفع أسعار المعادن النادرة، مما قد يضيف 10-15% إلى تكاليف الإنتاج في الصناعات المتقدمة، وفقاً لتقديرات «ستاتيستا».
لا شك في أن انهيار الاتفاق يعكس هشاشة التوازن بين الاقتصاد والجيوسياسية في زمن الحرب. بالنسبة إلى أوكرانيا، قد يكون هذا تأجيلاً للتضحية بمواردها، لكنه يضعها أمام اختبار البقاء بدون دعم أميركي قوي.
أما الولايات المتحدة، فستضطر إلى إعادة تقييم استراتيجيتها لتأمين المعادن الحرجة، ربما عبر ضغوط دبلوماسية جديدة أو استثمارات في مناطق أكثر استقراراً. في هذا العالم الذي يهيمن عليه منطق ترامب التجاري، يبدو أن الخاسر الأكبر هو الثقة بالصفقات طويلة الأمد، بينما الصين في صمت تظل المستفيد الأوحد.