سلطت انتخابات الرئاسة الأميركية 2024 الضوء على تحول جوهري في مشهد الإعلام، حيث تراجعت وسائل الإعلام التقليدية بينما برزت المنصات الإعلامية الجديدة كقوة مؤثرة.
وجسدت الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، هذا التحول من خلال استراتيجيته الإعلامية التي اعتمدت بشكل متزايد على البودكاست ووسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع الناخبين، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال».
ففي الأسابيع التي سبقت الانتخابات، شارك ترامب في مقابلة مدتها ثلاث ساعات على بودكاست جو روغان، محققةً أكثر من 45 مليون مشاهدة على «يوتيوب» وأكثر من 25 مليون استماع عبر منصات مثل «سبوتيفاي».
ولم تكن هذه الحلقة وحدها، بل مثلت جزءاً من سلسلة مشاركات في البودكاست أشارت إلى التأثير المتنامي للوسائل الإعلامية غير التقليدية. وخلال احتفال ترامب بفوزه ليلة الانتخابات، تمت الإشارة إلى روغان وغيره من مقدمي البودكاست، مما أكد على دور الإعلام الجديد في تشكيل الحوار السياسي.
وأشار التقرير إلى أن البودكاست و«تيك توك» ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى بدأت تدريجياً تحل محل الإعلام التقليدي كالتلفزيون والصحف كمصادر رئيسة للأخبار. فقد تضاعف عدد الأميركيين الذين يستمعون للبودكاست ثلاث مرات خلال العقد الماضي، حيث ذكر تقرير شركة «إيديسون» للأبحاث أن 47% من البالغين الأميركيين استمعوا إلى بودكاست خلال الشهر الأخير.
كما بات «تيك توك» مصدراً رئيساً للأخبار لأكثر من نصف مستخدميه، مما غيّر طريقة وصول الجمهور إلى المعلومات.
وساهم استحواذ الملياردير الأميركي إيلون ماسك على منصة «إكس» المعروفة سابقاً بـ«تويتر» في تعزيز المحتوى السياسي، وخصوصاً الآراء اليمينية، مما أدى إلى مزيد من الانقسام في المشهد الإعلامي.
في حين لا يزال للتلفزيون تأثيره خلال الأحداث الكبرى، اتجه الجمهور الأصغر سناً نحو المنصات الرقمية عوضاً عن الأخبار التقليدية.
ففي ليلة الانتخابات، تراجعت نسبة المشاهدة للشبكات الإخبارية الثلاث الرئيسة بنسبة 32% مقارنة بعام 2020، مع فقدان شبكة «سي إن إن» لنحو نصف جمهورها.
يعكس هذا الانخفاض الاتجاه العام نحو تفتيت الإعلام، حيث أصبحت وسائل الإعلام التقليدية تقدم روايات مختلفة تتباين بحسب المنصات التي يتابعها الأفراد.
تقول نانسي جيبس، المديرة السابقة لمجلة «تايم» ومديرة مركز «شورنشتاين» للإعلام والسياسة والسياسات العامة بجامعة «هارفارد»: «لقد تفتت مشهد المعلومات إلى أجزاء متزايدة، وصار دور المؤسسات الإعلامية الكبرى أصغر في الخريطة الإعلامية. ونتيجة لذلك، يتعرض الناخبون لرسائل ووجهات نظر متباينة، مما يؤدي إلى بيئة إعلامية أكثر انقساماً».
برز البودكاست كأداة رئيسة في هذا التحول، إذ يجمع بين الترفيه والمحتوى الإخباري. ووفقاً لبيانات من شركة «ساوندز بروفيتابل» لتحليل صناعة الصوت، يستمع حوالي 60% من الأفراد دون سن 35 للبودكاست، ويعد %54 من هؤلاء التحليل السياسي جزءاً رئيساً من هذه الوسيلة.
وأدرك ترامب هذا الاتجاه، حيث ظهر في نحو 20 بودكاست هذا العام، من بينها برنامج «ثيو فون» الكوميدي و«بارستول سبورتس»، مما ساعده في استقطاب 56% من أصوات الذكور ضمن الفئة العمرية 18 إلى 29 عاماً، حسب بيانات استطلاع رأي لوكالة أسوشيتد برس.
لا يقتصر جمهور البودكاست على الفئات العمرية الأصغر فقط، بل يستقطب جمهوراً متنوعاً أيضاً. فقد ظهرت نائبة الرئيس كامالا هاريس في بودكاست برينيه براون، الذي يركز على جمهور نسائي من الفئة العمرية الأكبر، وفي بودكاست (Call Her Daddy) الشهير، الذي جذب أكثر من 8 ملايين مستمع عبر المنصات المختلفة.
في الوقت ذاته، أصبح الأفراد العاديون على منصات مثل «تيك توك» مؤثرين رئيسين في ميدان الأخبار.
ووفقاً لتحليل «وول ستريت جورنال»، فإن «المؤثرين الإخباريين» يحققون تفاعلاً وانتشاراً يتفوقان على بعض وسائل الإعلام التقليدية مثل «سي إن إن» و«سي بي إس». على سبيل المثال، وصلت فيديوهات المؤثر هاري سيسون عن فوز ترامب في الانتخابات إلى 6.7 مليون مشاهدة على «تيك توك»، مقارنة بـ3.2 مليون مشاهدة لمنشور مشابه على «إن بي سي».
وبحسب التقرير، فقد أصبحت «صحافة المواطن» تحظى بتقدير متزايد لدى وسائل الإعلام التقليدية. ففي المؤتمر الوطني الديمقراطي، تم اعتماد المؤثرين الإخباريين جنباً إلى جنب مع الإعلاميين التقليديين. كما استعانت حملة ترامب بمنشئي محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي لتغطية مناظرته مع هاريس في سبتمبر، مما عزز من تداخل الحدود بين الإعلام التقليدي والصحافة المستقلة الحديثة.
كان التحول من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد واضحاً في عام 2016، حيث أسهم ترامب في رفع نسب المشاهدة بشكل كبير لدى قنوات «سي إن إن» و«فوكس نيوز» و«إم إس إن بي سي»، إذ أسهم أسلوبه السياسي غير المتوقع والمثير للجدل في زيادة معدلات المشاهدة.
وتكرر هذا النمط في 2024، حيث جذبت المناظرات والتغطيات الانتخابية جمهوراً ضخماً، مع تحقيق مناظرة «سي إن إن» الرئاسية بين ترامب والرئيس جو بايدن التي أُقيمت في يونيو، 50 مليون مشاهدة، حيث عُرضت عبر عدة شبكات.
ورغم هذا الارتفاع في نسبة المشاهدة، فإنه يخفي انخفاضاً واسعاً في معدلات المشاهدة للقنوات الإخبارية، إذ تراجعت أعداد المتابعين لدى كل من «فوكس نيوز» و«إم إس إن بي سي» و«سي إن إن»، وكانت الأخيرة الأكثر تأثراً.
في المقابل، قلصت المنصات الرقمية مثل «فيسبوك» و«غوغل» من تركيزها على الأخبار، مما أدى إلى انخفاض كبير في حجم الزيارات الموجهة إلى المواقع الإخبارية.
ووفقاً لبيانات شركة «سميلارويب» لخدمات تحليلات الويب، انخفضت الإحالات أو تدفق الزائرين إلى صحيفة «واشنطن بوست» عبر محركات البحث بنسبة 26%، وتراجعت الإحالات من وسائل التواصل الاجتماعي بنسبة 52% خلال الفترة من يونيو 2022 إلى أكتوبر 2024.
وأشار جوناه بيرتي، الرئيس التنفيذي لموقع «بازفيد» الترفيهي، إلى أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت أكثر فعالية من وسائل الإعلام التقليدية في تقديم المحتوى الذي كانت تقدمه المجلات والصحف ووسائل الإعلام الرقمية.
ويعكس هذا التحول تأثيرات كبيرة على مستقبل الأخبار، حيث بات الناس يتلقون المعلومات بشكل متزايد ضمن بيئات معزولة ومحددة.
كما أشار سام فيست، الرئيس التنفيذي لشبكة «سي-سبان» التلفزيونية، إلى أن وسائل الإعلام التقليدية لا تزال تحتفظ بدور بارز في الحملات الرئاسية، لكن «مشهد الإعلام يشهد تفككاً واضحاً، وأصبح أكثر تنوعاً من أي وقت مضى».
وفي ليلة الانتخابات، سجلت جميع الشبكات الإخبارية الرئيسة انخفاضاً كبيراً في أعداد المشاهدين مقارنة بعام 2020، مما يعزز التحول المستمر في طريقة استهلاك الأميركيين للأخبار.
وعلى الرغم من أن «فوكس نيوز» تصدرت المشهد بـ10.3 مليون مشاهد، فقد شهدت انخفاضاً مقارنةً بذروة مشاهدتها خلال فترة جائحة كورونا. في حين استمرت «سي إن إن» و«إم إس إن بي سي» في مواجهة صعوبة في جذب المشاهدين الأصغر سناً، حيث بلغ متوسط الأعمار لدى المشاهدين في كلا الشبكتين 60 عاماً.
وأشار التقرير إلى أن وسائل الإعلام التقليدية تفقد بسرعة مواقعها لصالح المنصات الرقمية الجديدة، ما يعكس التحول الأوسع في نظام المعلومات. ومع استمرار الحملات السياسية في التنقل عبر هذه البيئة الإعلامية المتغيرة، توقع التقرير أن يتزايد دور البودكاست و«تيك توك» ومنشئي المحتوى المستقلين في تشكيل الرأي العام.