في خمسينيات القرن الماضي، كان حوالي 35% من وظائف القطاع الخاص في الولايات المتحدة تعمل في قطاع التصنيع. اليوم، هناك 12.8 مليون وظيفة في التصنيع في الولايات المتحدة، وهو ما يعادل 9.4% من إجمالي وظائف القطاع الخاص. هذا التحول الكبير يعكس فقدان الولايات المتحدة لمكانتها كقوة صناعية عالمية.
وفي ظل الحديث المستمر عن إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، يقول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن نظام التعريفات الجمركية الذي فرضه يهدف إلى استعادة هذه الوظائف، لكن العديد من الاقتصاديين يعبرون عن شكوكهم حول فعالية هذه السياسات، محذرين من أن الأضرار الناتجة عن هذه التعريفات قد تفوق أي فوائد محتملة.
لفهم ما إذا كان من الممكن استعادة مكانة التصنيع في الولايات المتحدة، من المهم أن نعود خطوة إلى الوراء ونتساءل: كيف فقدت الولايات المتحدة مكانتها كأكبر قوة صناعية في العالم؟
جاء هذا التراجع، وفقاً لتقرير لـ«وول ستريت جورنال»، كنتيجة مباشرة لتأثير العولمة، والسياسات التجارية الجديدة، والتغيرات في هيكل الاقتصاد الأميركي الذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على القطاعات الخدمية والتكنولوجية بدلاً من التصنيع التقليدي.
في تسعينيات القرن الماضي، ومع انتعاش فكر الليبرالية الاقتصادية وتوقيع الاتفاقيات التجارية الكبرى مثل «نافتا»، أصبحت الولايات المتحدة أكثر انفتاحاً على السوق العالمية. ولكن هذا الانفتاح أسهم في تدفق السلع الأجنبية ذات التكلفة المنخفضة، مما قلل من الطلب على المنتجات الأميركية.
ثم ظهرت الصين كقوة صناعية جديدة في القرن الواحد والعشرين، مستفيدة من عمالتها الرخيصة، وتقديمها لمنتجات بجودة معقولة وأسعار منافسة. في ظل هذا التنافس، بدأت الشركات الأميركية بنقل مصانعها إلى دول مثل الصين والهند حيث التكاليف أقل بكثير، مما أسهم في تراجع التصنيع المحلي في الولايات المتحدة.
إلى جانب العولمة، نشأت تحديات أخرى مثل تطور الصناعة التكنولوجية التي دفعت الاقتصاد الأميركي إلى التوجه نحو قطاعات جديدة، مثل التكنولوجيا المالية وتكنولوجيا المعلومات، على حساب الصناعات الثقيلة التقليدية مثل السيارات والآلات. بدأت الشركات الأميركية في تركيز استثماراتها في هذه القطاعات الحديثة التي تقدم فرصًا أعلى للنمو والعائدات، بحسب التقرير.
لكن التحديات الاقتصادية لم تقف عند هذا الحد. بدأ العديد من الأميركيين يشعرون بالضغط جراء تراجع الصناعات التقليدية، خاصة في الولايات التي كانت تعتمد بشكل كبير على التصنيع. وتفاقم الوضع مع سياسة الهجرة الصناعية التي قللت من وجود أيدٍ عاملة مدربة، في الوقت الذي كان يتجه فيه العالم نحو الثورة التكنولوجية التي تتطلب مهارات حديثة لا تتوفر في معظم القوى العاملة الأميركية.
مع هذه التغيرات، لجأت الإدارة الأميركية السابقة إلى تطبيق سياسات الحماية التجارية، من خلال فرض رسوم جمركية على السلع المستوردة، في محاولة لإعادة الصناعة المحلية إلى الواجهة. إلا أن هذه السياسات واجهت العديد من الانتقادات، حيث اعتبرها البعض مجرد حلول قصيرة الأمد، دون معالجة الأسباب الجوهرية التي أدت إلى تراجع القطاع الصناعي الأميركي. ففي حين قد تساعد الرسوم الجمركية في تقليل العجز التجاري بشكل مؤقت، إلا أنها لم تتمكن من إعادة تأسيس قاعدة صناعية محلية مستدامة.
بينما كانت أميركا تحاول إعادة إحياء صناعتها، شهدت الدول الأخرى تغييرات إيجابية في قطاع التصنيع. الصين، على سبيل المثال، طورت تقنيات صناعية متطورة، وأصبحت واحدة من أكبر الاقتصادات الصناعية في العالم. في الوقت ذاته، حافظت الدول الأوروبية على سياسة صناعية مدروسة ومبنية على التنوع والتعاون بين القطاعين العام والخاص.
إحدى المسائل التي لم تعالجها السياسات التجارية الأميركية بشكل فعال كانت ضرورة التأقلم مع التغيرات التكنولوجية. فتكنولوجيا الإنتاج الحديثة مثل الأتمتة والذكاء الاصطناعي تتيح للدول الأخرى، مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية، الحفاظ على قطاعات صناعية متقدمة رغم التحديات الاقتصادية. بينما كانت الولايات المتحدة تتجاهل هذه المتغيرات، ظلت أسواقها المحلية تعتمد على الصناعات التقليدية، مما جعلها أقل قدرة على المنافسة.
وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى إعادة تصنيع منتجات معينة داخل أراضيها، فإن المستقبل يتطلب استراتيجيات أوسع تتجاوز الرسوم الجمركية، نحو سياسات تعليمية وتدريبية لتأهيل القوى العاملة، واستثمارات ضخمة في الصناعات المستقبلية. تلك الاستثمارات يجب أن تركز على مجالات مثل الذكاء الصناعي، التكنولوجيا الحيوية، والطاقة المتجددة.
لا يزال هناك أمل في أن تستعيد الولايات المتحدة جزءاً من مكانتها كقوة صناعية، إلا أن ذلك يتطلب مزيداً من الجهود لتحقيق تنسيق بين السياسة التجارية والسياسات المالية والتعليمية. فالتحدي الأكبر لا يتمثل فقط في إغلاق المصانع التي أُغْلِقَت بالفعل، بل في كيفية الاستفادة من التقدم التكنولوجي وتدريب جيل جديد من العمال المهرة الذي يستطيع المنافسة في الصناعات المستقبلية.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في استعادة مكانتها كقوة صناعية، يجب عليها أن تتبنى نهجاً شاملاً يعزز من قدراتها الصناعية الحديثة بدلاً من الاعتماد على أساليب الحماية التجارية التي قد تكون مؤقتة في حل الأزمات الهيكلية التي تواجهها. ستكون هذه هي الطريق الأكثر استدامة لاستعادة القوة الصناعية الأميركية التي فقدتها في السنوات الأخيرة.