في تحول غير مسبوق أعاد رسم ملامح الصناعة عالمياً، صعدت الصين إلى موقع الصدارة في قطاع الصلب، لتستحوذ وحدها على أكثر من نصف الإنتاج العالمي، وبعد أن كانت لاعباً ثانوياً في هذا المجال، تجاوزت بكين قوى صناعية تاريخية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ما أثار تحولات جوهرية في التوازنات التجارية، وأثار مخاوف متزايدة لدى الدول المستوردة.
تقرير لصحيفة «تلغراف» البريطانية أشار إلى أن تأثير صعود الصين في قطاع الصلب لم يقتصر على إعادة ترتيب موازين التجارة العالمية، بل كشف أيضاً عن مواطن ضعف خطيرة في الاقتصادات التي تعتمد بشكل مفرط على الواردات، ولا سيما في ظل اتساع نفوذ بكين في هذه الصناعة الاستراتيجية.
بدأ الصعود السريع للصين في قطاع الصلب مطلع العقد الأول من الألفية، مدفوعاً بوتيرة تصنيع متسارعة وطلب محلي غير مسبوق، حيث أسهمت مشاريع البنية التحتية الواسعة، من ناطحات السحاب إلى شبكات القطارات عالية السرعة، في توسعة القدرات الإنتاجية للبلاد بشكل هائل، وبحلول عام 2010، اعتلت الصين صدارة الإنتاج العالمي للصلب، وهو الموقع الذي لم تتنازل عنه منذ ذلك الحين.
في تلك المرحلة، كان إنتاج الصين من الصلب موجّهاً أساساً لتلبية الطلب المحلي، غير أن تباطؤ هذا الطلب في السنوات الأخيرة، نتيجة لنضوج الاقتصاد الصيني، لم يقابله خفض في وتيرة الإنتاج، ما أدى إلى فائض في المعروض على المستوى العالمي، تسبب هذا الفائض في اختلالات تجارية ملموسة، أثارت قلق منتجي الصلب في الخارج، خصوصاً في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث واجهت هذه الصناعات صعوبات متزايدة في مجاراة الأسعار الصينية المنخفضة، التي غالباً ما كانت تقل عن كلفة الإنتاج المحلي.
رداً على ذلك، فرضت العديد من الدول تدابير لمكافحة الإغراق ورسوماً جمركية لحماية صناعاتها المحلية من الصلب الصيني الرخيص، إذ نفذ الاتحاد الأوروبي إجراءات وقائية عدة للحد من واردات الصلب من الصين، بينما فرضت الولايات المتحدة في عام 2018 رسوماً جمركية بنسبة 25% على هذه الواردات، وتعكس هذه الإجراءات تصاعد الشعور بالهشاشة لدى الصناعات المعتمدة على الصلب في الغرب، حيث تتسم تكاليف الإنتاج، خصوصاً العمالة والطاقة، بارتفاع ملحوظ مقارنة بالصين.
على الرغم من المخاوف المتزايدة بشأن المنافسة غير العادلة التي تثيرها الهيمنة الصينية، فإنها لا تمثل مصدر التوتر الوحيد في قطاع الصلب العالمي، فعلى مدى العقد الأخير، وسّعت شركات الصلب الصينية حضورها الدولي بوتيرة متسارعة، عبر استحواذات مباشرة واستثمارات استراتيجية، لا سيما في دول نامية مثل جنوب شرق آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، وقد شكّلت مبادرة «الحزام والطريق»، التي تقودها الحكومة الصينية، حجر الأساس في هذه الاستراتيجية، إذ لم تقتصر الشركات الصينية من خلالها على فتح أسواق جديدة لمنتجاتها، بل بادرت إلى ضخ استثمارات كبيرة في بناء مصانع للصلب داخل تلك الأسواق.
فعلى سبيل المثال، أنشأت مجموعة «تشينغشان هولدينغ غروب» (Tsingshan Holding Group)، وهي من أكبر منتجي الصلب في الصين، مصنعاً ضخماً في إندونيسيا مستفيدة من وفرة الموارد الطبيعية وانخفاض تكلفة العمالة هناك. وبالمثل، استثمرت شركات صينية بمصانع صلب في الهند وماليزيا وزيمبابوي، مستغلةً الطلب المتزايد على الصلب نتيجة المشاريع التنموية الجارية، وتتيح هذه الاستثمارات للشركات الصينية تجاوز الحواجز التجارية والحصول على ميزة تنافسية على حساب المنتجين المحليين، ما يعزز من قبضتها على السوق العالمية.
ورغم الطابع الاستراتيجي لهذه الاستثمارات، إلا أن هناك مخاوف متزايدة من أن الشركات الصينية قد تستخدم هيمنتها السوقية لتقويض صناعات الصلب الأجنبية، ويقول منتقدون إن الصين ربما تستحوذ على مصانع صلب في دول أخرى لتقليص إنتاجها أو إغلاقها نهائياً، بهدف إضعاف المنافسة العالمية، وبينما لا توجد أدلة قاطعة على أن الصين تتعمد تدمير الصناعات الأجنبية، إلا أن هذا السيناريو يبقى محوراً دائماً في النقاشات المتعلقة بسياسات بكين الاقتصادية.
من الأمثلة اللافتة استحواذ مجموعة «جينغيه غروب» (Jingye Group) الصينية على مصنع «بريتش ستيل» (British Steel) في مدينة سكونثورب الصناعية البريطانية، وقد أثار هذا التحرك مخاوف من سعي الصين للسيطرة على القدرات الحيوية لإنتاج الصلب في الغرب، وتجلّى هذا القلق في توتر واضح بين العمال والإدارة الصينية، حين قوبلت زيارة وفد من الشركة للمصنع باحتجاجات عمالية عكست عمق الشكوك وسوء الفهم المتبادل، ويشير هذا الحادث إلى تنامي الشعور الغربي بعدم الاطمئنان إزاء الاعتماد المتزايد على الصلب الصيني، وما قد ينجم عنه من تداعيات استراتيجية واقتصادية.
أدى فائض العرض العالمي، الناتج عن طاقة الإنتاج المفرطة في الصين، إلى تهديد بقاء العديد من صناعات الصلب في الاقتصادات المتقدمة، في المملكة المتحدة مثلاً، لا يغطي الإنتاج المحلي سوى 35% من الطلب على الصلب، مقارنة بنسبة 50% في السابق، ويعني هذا الاعتماد على الواردات، ولا سيما من الصين، أن قطاعات حيوية مثل الدفاع والبنية التحتية والإنشاءات معرضة لمخاطر حقيقية في حال تعطل سلاسل الإمداد.
وتتفاقم هذه المخاطر في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، حيث تسعى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي إلى احتواء النفوذ الصيني المتنامي، خصوصاً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، غير أن هذه الدول تجد نفسها أمام واقع مقلق، يتمثل في احتمال تأثر قدرتها على تصنيع معدات حيوية، بما فيها المعدات العسكرية، في حال فرضت قيوداً على استيراد الصلب من الصين، وتشير التوترات التجارية الأخيرة بين واشنطن وبكين إلى أن الصلب لم يعد مجرد سلعة اقتصادية، بل أصبح عنصراً استراتيجياً له أبعاد تتجاوز المنافسة التجارية.
كما لا تقتصر هيمنة الصين على عوامل السوق فقط، بل ترتبط أيضاً بسياسات حكومية داعمة، فالقروض المدعومة من الدولة، وانخفاض تكاليف الطاقة والعمالة، مكنت الشركات الصينية من الحفاظ على أسعار منخفضة واستراتيجيات توسع شرسة، وقد أوجد هذا الوضع بيئة تنافسية غير عادلة، حيث لا تستطيع الشركات الغربية مجاراة الأسعار الصينية التي يُعتقد أنها لا تعكس التكاليف الفعلية، ما أدى إلى اتهامات متكررة للصين بتشويه الأسواق من خلال دعم حكومي غير شفاف.
في ظل هذه المعطيات، تواجه دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تحديات كبيرة في سعيها لحماية صناعتها المحلية من الهيمنة الصينية، ويدعو بعضهم إلى مراجعة السياسات التجارية، فيما يرى آخرون أن الحل يكمن بالاستثمار في التقنيات الخضراء والأتمتة لرفع كفاءة الصناعة المحلية وضمان استدامتها.
كذلك ومع استمرار تطور سوق الصلب العالمية، سيظل نفوذ الصين في هذا القطاع يتصاعد، ما يفتح أمام الاقتصادات العالمية فرصاً وتحديات جديدة. في ضوء هذا الواقع المتغير، يبقى السؤال قائماً حول كيفية تعامل دول العالم مع هذا النفوذ المتزايد، في ظل الترابط العميق بين الاقتصاد العالمي وإنتاج الصين من الصلب.