logo
مقالات الرأي

فرنسا وإفريقيا.. الاقتصاد أولاً!

فرنسا وإفريقيا.. الاقتصاد أولاً!
تاريخ النشر:7 مارس 2023, 08:00 ص

ثمة تغييرات جذرية، ومفصلية، رسمت ملامحها جولة إفريقية اختتمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الأول، شملت 4 دول، هي الغابون، وأنغولا، والكونغو برازفيل، وجمهورية الكونغو الديموقراطية، أوضح خلالها استراتيجية بلاده للشراكة مع القارة السمراء، و"المسار الذي سيسلكه" في ولايته الثانية على مدى خمس سنوات مقبلة، وفق "رؤية محددة" ألزم بها نفسه لتطبيق تلك الشراكة، وما يتبعها من "أولويات منهجية" في اطار "مظلة" تجمع فرنسا وأوروبا والقارة الإفريقية، أهمها:

أولاً، تختار الدول الإفريقية شركاءها بحرية وسيادة، خاصة أن الشعور المناهض لفرنسا في الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية يدفع باريس لتغيير موقفها نحو مزيد من الإصغاء، وهو ما أكدت عليه كريسولا زاكاروبولو، سكرتيرة الدولة المكلّفة بالتنمية والفرنكفونية والشراكات الدولية لدى وزارة أوروبا والشؤون الخارجية، والتي رافقت ماكرون في جولته.

ثانياً، احتلت قضية البيئة والاهتمام بها، عنواناً كبيراً، حيث بدأ بها ماكرون جولته في الغابون، وشارك في "قمة الغابة الواحدة" المكرسة للحفاظ على غابات حوض نهر الكونغو.

ويشكل حوض الكونغو الذي يضم220 مليون هكتار من الغابات، ثاني أكبر مساحة غابات وثاني رئة بيئية للأرض بعد الأمازون، تمتد بين الكونغو الديمقراطية والكونغو برازافيل والغابون، وهي مهددة بالاستغلال المفرط للزراعة والصناعة وفي بعض الحالات إنتاج النفط.

ثالثاً، جاء الاقتصاد على رأس تلك الأولويات، خلال محطته الثانية في أنجولا، حيث تم إطلاق شراكة إنتاج زراعي بين فرنسا وأنجولا.

رابعاً، ركزت مباحثات كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، وهي المحطة الأخيرة من جولته،على تعميق العلاقات الفرنسية الكونغولية في مجالات التعليم والصحة والبحث العلمي والثقافة والدفاع.

خامساُ، يظل التعاون العميق اقتصاديا وثقافيا وعسكريا، الهدف الأول في علاقات فرنسا بمستعمراتها السابقة، بغرض الحفاظ على دور مؤثر لها في مستقبل هذه الدول.

وبقيت دول غرب إفريقيا الـ14، وهي مجموعة دول "الإيكواس"، هي مركز النفوذ الفرنسي في إفريقيا شمال القارة وغربها، وشرقا في جيبوتي، وفي الجنوب الشرقي في جزر القمر ومدغشقر، مع تفاوت في مستوى النفوذ ونوعيته وتركزه.

ويرى موقع "أفريقا نيوز" أن ماكرون نادى بمصداقية نحو "حقبة موضوعية جديدة" وبناء "علاقة متوازنة" مع أفريقيا، وأن القوة الاستعمارية السابقة ستخفض تواجدها العسكري"الملحوظ" في القارة، وستكتفي بنحو 5 آلاف جندي، وهو ماقد يكون على مضض من قيادات الجيش الفرنسي.

لكن مع تلك التوجهات الجديدة، هناك عدد من الإشكاليات التي يتعين إعادة هيكلتها اقتصادياً في العلاقات الفرنسية الإفريقية، على رأسها:

1) أن النفوذ الفرنسي الفاعل في غرب إفريقيا، راسخ وفق اتفاقيات تربط اقتصاديات هذه الدول بالاقتصاد الفرنسي، وتضخ تلك الدول 85% من احتياطاتها النقدية الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي، بإجمالي قرابة 500 مليار دولار سنويا، وعند السحب يتم التعامل معها بالأسعار التجارية، ولا تستطيع البنوك المركزية لتلك الدول الحصول إلا على (15%) من احتياطاتها إذا ما احتاجت إلى ذلك.

2) الاقتصاد كان السبب الرئيس وراء قرار فرنسا بتخفيض اتفاقيات تعاون عسكري مع 25 دولة إفريقية، إضافة إلى إعادة توظيف سبعة قواعد عسكرية متفاوتة الحجم في كل من تشاد وإفريقيا الوسطى والكاميرون وجيبوتي وجزر القمر والسنغال والغابون.

3) مصالح الأفارقة من الناحية الاقتصادية بدأت تتربع على قائمة الاهتمامات، بظهور أجيال جديدة أكثر تحرراً في الفكر السياسي والاقتصادي، وهو ما دفعهم إلى البحث عن شركاء جدد أو تغيير المسارات التاريخية.

4) تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية للشعوب الإفريقية بعد جائحة "كورونا" وتفاقمها مع بدء الحرب الروسية الأوكرانيا، وبالتالي فقد فرض الواقع عناصر منافسة جديدة بدخول الصين وروسيا على خط التنافس مع الولايات المتحدة الأميركية تجاه إفريقيا.

5) المنافسة الفرنسية تبقى في تحد كبير مع الصين، التي تركز بدورها على مجال الاقتصاد والبني التحتية والقروض الميسرة، وأصبحت الشريك الاقتصادي الأكبر، وتفوقت على الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين، ويتوقع أن ترتفع استثمارات الصين إلى 500 مليار دولار تقريبا في 2025.

6) التحدي الروسي يظهر أيضا منافساً قوياً لفرنسا، فقد احتلت موقعا متقدما في الشراكات مع الدول الإفريقية، حيث أسقطت موسكو 20 مليار دولار من الديون المستحقة على عدد من الدول الإفريقية.

7) صادرات السلاح لإفريقيا، يبقى مصدر الاقتصاد الأول للدول الكبرى، وكانت روسيا مصدر 50% من السلاح إلى أفريقيا في 2020، إضافة الى خدمات التدريب للجيوش الإفريقية عبر شركة "فاغنر" التي تنشط في عدد من المجالات، منها تقديم الحماية للمؤسسات والشخصيات والاستثمارات.

8) الاقتصاد هو البديل العاجل والأنسب، عندما تكون السياسة الفرنسية في منعطف الاختبار والمنافسة بين السياسات الدولية، حتى لا تخسر المخزونات الاستراتيجية الإفريقية ربما إلى الأبد.

ولعل حرص الرئيس ماكرون على الاقتصاد الإفريقي، وتلك "المقاربة"، ظهر جلياً في ختام جولته في كينشاسا، مع تأكيده أن جمهورية الكونغو الديموقراطية "يجب ألا تكون غنيمة حرب، يجب أن يتوقف النهب المكشوف (للبلاد).

وتعتبر فرنسا أول وجهة في العالم لاستقبال المهاجرين الأفارقة، إذ تستقبل سنويا (20%) منهم، ويتجاوز عدد الأفارقة في فرنسا 10 ملايين شخص نصفهم مغاربيون، ويشكلون حوالي 15% من مجموع سكان البلاد، وفق أرقام رسمية فرنسية.

وتتمتع أيضاً بحضور اقتصادي وتجاري قوي في القارة الإفريقية، حيث تنشط أكثر من 1100 مجموعة استثمارية فرنسية عملاقة، وحوالي 2100 شركة كبيرة، وفرنسا هي ثالث مستثمر في القارة بعد بريطانيا والولايات المتحدة.

وثمة مؤشر آخر يهدد الحضور الاقتصادي الفرنسي يتمثل في تنامي نزعات التمرد على النفوذ الفرنسي داخل تكتلي "المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا" و"المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا"، واللتين تستخدمان "الفرنك الإفريقي" كعملة مرتبطة بالسوق المالية الفرنسية.

ويقدر خبراء اقتصاديون بأن دول هذه المجموعة تدفع 50% من احتياطاتها من العملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية، وباعتمادها على عملتها الخاصة "الإيكو" سيتجسد فك الارتباط المالي بين "المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا" وفرنسا بحلول سنة 2027.

وإذا كان ماكرون قد شرح أبعاد الصراع والمنافسة التي تواجه الفرنسيين في القارة السمراء، فقد اعترف بلغة واقعية بتراجع مكانة فرنسا على الأصعدة الاقتصادية والاستراتيجية.

وبقدر ما ينطوي خطاب الواقعية الذي بات يصدر من قمة هرم الدولة الفرنسية، على اعتراف بتراجع نفوذ القوة الاستعمارية السابقة، فهو يحمل معه توجهات لتحقيق انطلاقة جديدة للدور الفرنسي هناك.

وترى صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية أن ماكرون محق في تركيزه على تنشيط الدور الفرنسي في القارة السمراء "لأن فرنسا لا يمكن أن تستبعد نفسها من قارة أمامها مستقبل مشرق، ولكن إذا أرادت البقاء، فعليها تغيير نهجها".

logo
اشترك في نشرتنا الإلكترونية
تابعونا على
تحميل تطبيق الهاتف
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC