في العام 1976، أنهت الصين مرحلة من السياسات المتطرفة والاضطرابات الداخلية التي أرهقت البلاد لعقود، وبدأت مرحلة جديدة بقيادة دينغ شياو بينغ، الذي تبنّى إصلاحات اقتصادية قلبت مسار البلاد نحو النمو والانفتاح.
دينغ شياو بينغ، لم يكن دينغ ديمقراطياً ولا ليبرالياً، لكنه كان قائداً براغماتياً ذا عقلية إصلاحية، فهم أن النمو لا يأتي بالشعارات، بل بالسياسات الفعّالة والانفتاح على المعرفة والعالم. فقاد إصلاحات اقتصادية ضخمة في الثمانينات مهّدت الطريق لعقود من النمو السريع والتحول الجذري في مكانة الصين على الساحة العالمية.
الأمر ذاته يمكن قوله عن لي كوان يو، مؤسس سنغافورة الحديثة، الذي بنى دولة صغيرة من لا شيء تقريباً، عبر احترام الكفاءة، وضبط الفساد، وتقديس التعليم والانضباط المؤسسي. لم تكن تجربته ديمقراطية أيضاً، لكنها بنت دولة قانون فعّالة واقتصاداً مزدهراً. في كوريا الجنوبية وإندونيسيا، شهدت أنظمة شخصية أخرى فترات من النمو الكبير بقيادة قادة مثل بارك تشونغ هي وسوهارتو.
لكن التاريخ لا يكتب فقط عن «النجاحات»، فالأنظمة الفردية— أي تلك التي يتركّز فيها القرار بيد فرد واحد — هي أنظمة عالية المخاطر. قد تمنحك أي كوان يو، لكنها قد تمنحك أيضاً بشار الأسد.
وقد تقود إلى إصلاحات عظيمة، أو إلى كوارث لا تُنسى. هذا ما كشفته دراسة أجراها العالمان بنجامين جونز وبنجامين أولكن العام 2005، حيث وجدا أن وفاة القادة الفرديين تقود عادة إلى تحولات اقتصادية حادة، سواء نحو الأفضل أو الأسوأ، على عكس الحال في الدول المبنية على مؤسسات، حيث تستمر المؤسسات بتسيير الأمور دون صدمات.
في هذا السياق، يظهر دونالد ترمب كمثال صارخ على محاولة فاشلة لاستنساخ نموذج «القائد القوي». منذ لحظة توليه الرئاسة، حاول ترامب تجسيد شخصية الزعيم الذي «يخرق القواعد» و«يصلح الدولة»، مُصوّراً نفسه كنسخة أميركية من دينغ أو لي كوان يو. لكن الفارق الجوهري، بل الفجوة الهائلة، هي أن ترامب لا يملك أدوات القيادة التي امتلكها أولئك.
بينما كان دينغ يفتح بلاده على العالم، ويعزز الكفاءة العلمية، كان ترامب يهاجم العلماء، يحتقر المعرفة، ويقوّض الثقة في المؤسسات الأميركية.
وبينما كان لي كوان يو يركز على بناء دولة قانون ومؤسسات فعّالة، كان ترامب ينسف المؤسسات، ويمنح السلطة لمقربين لا يخضعون لأي مساءلة، ويقود إدارة تمارس الحكم بالصفقات لا بالقوانين.
تعيين إيلون ماسك – رجل الأعمال الشهير – كـ«قيصر الكفاءة الحكومية»، مثال واضح على ذلك النهج. بدلاً من الاعتماد على آليات مؤسسية شفافة، تم تفويض السلطة لشخص واحد يتصرف دون رقابة، وصولاً إلى النفاذ لسجلات مالية وقيادة خطط تسريح جماعية عبر مؤسسات متعددة.
ما يحدث هنا هو انزلاق نحو «نظام فردي» في قلب الديمقراطية الأقدم في العالم.
لكن، على عكس النماذج الآسيوية التي بُنيت على عقلانية وصرامة وانضباط، فإن التجربة الأميركية تحت ترامب اتجهت نحو الفوضى والارتجال وتآكل القواعد.
وإذا كانت الأنظمة الشخصية تفتح المجال أمام فرص النمو، فإنها – كما تُظهر الأدلة – توسّع هامش الفشل والانهيار. ففي غياب الضوابط المؤسسية، يصبح مصير الدولة رهناً بمزاج الفرد. وإن كان هذا الفرد لا يحترم العلم، ويقوّض المؤسسات، ويستمد قوته من الولاء لا الكفاءة، فالفشل يصبح احتمالاً راجحاً لا استثناءً.
تذكرنا تجربة ترامب بأن النمو والنهضة لا يأتيان من تمركز القوة فحسب، بل من نوعية من يمارسها، ومن الإطار المؤسسي الذي يعمل ضمنه.
دينغ ولي كوان يو كانا استبداديين، نعم، لكنهما بنيا. ترامب كان وما يزال استعراضياً… وسيهدم.