انتهت الانتخابات الأميركية مُثبتةً مرة أخرى فشل استطلاعات الرأي بشكل ذريع، بينما أكدت صحة توقعات المراهنات في أواخر أكتوبر التي تنبأت بفوز ساحق لترامب. جاءت النتيجة صادمة للكثيرين، بمن فيهم كاتب هذا المقال، الذين انخدعوا بالتغيرات المفاجئة في احتمالات فوز هاريس قبيل الانتخابات مباشرة.
وبدلاً من الانتخابات المحتدمة والمثيرة للتوتر التي توقعها الكثيرون استناداً إلى استطلاعات الرأي المتقاربة حتى يوم الاقتراع، شهدنا فوزاً واضحاً وكاسحاً لترامب والحزب الجمهوري، الذي سيسيطر على مجلسي الكونغرس.
سنتناول في هذا المقال، ثلاث تداعيات رئيسية لسيناريو «ترامب 2.0» في محاولة لتقييم الأثر الشامل لهذا الحدث التاريخي على الأسواق المالية العالمية والتاريخ العالمي بشكل عام.
«تمر عقود دون أن تحدث أثراً، ونشهد في أسابيع ما يتطلب عقوداً» - فلاديمير لينين
منحت انتخابات عام 2024 الأميركية التاريخية دونالد ترامب فوزاً ساحقاً، والجمهوريين سيطرة كاملة على الكونغرس. شكلت هذه النتيجة ثورة سياسية رافضة للمؤسسة السياسية التقليدية ومنحت ترامب والجمهوريين تفويضاً سياسياً قوياً. سيترتب على ذلك تغييرات جذرية وربما إعادة تشكيل شاملة للاقتصاد الأميركي والعالمي. سنركز على هذه النقطة لاحقاً، لكن دعونا أولاً نلقي نظرة سريعة على أبرز الرابحين والخاسرين في أعقاب الانتخابات.
أحدثت الانتخابات ردة فعل حادة في الأسواق العالمية، حيث ارتفعت الأسهم الأميركية بشكل ملحوظ، وكانت الشركات الصغيرة هي الأفضل أداءً في السوق. يعود ذلك إلى أن الشركات الأميركية الأصغر تعتمد غالباً على السوق المحلي وستستفيد بشكل أكبر من الإصلاحات الضريبية الجديدة لترامب، كما قد تحظى بعض الشركات الصغيرة بحماية من المنافسة الأجنبية بفضل الرسوم الجمركية التي سيفرضها ترامب.
وتفوق أداء البنوك الكبرى وشركات الخدمات المالية مثل «جيه بي مورغان»، أكبر بنك أميركي والموضح في الرسم البياني أعلاه، حتى على مؤشرات أسهم الشركات الصغيرة الأميركية. فقد قفزت أسهم «جيه بي مورغان» بأكثر من 11% يوم الأربعاء الماضي، بعد إعلان نتيجة الانتخابات؛ مما أضاف أكثر من 60 مليار دولار أميركي إلى قيمة الشركة. وتدفق المستثمرون نحو البنوك بسبب موقف ترامب المناهض للتنظيمات المالية. حيث يُنظر إلى إدارة ترامب على أنها لن تكتفي بخفض الضرائب على الشركات فحسب، بل ستسعى أيضاً إلى إلغاء بعض اللوائح التنظيمية التي وُضعت بعد الأزمة المالية العالمية واللوائح الأخرى المخطط لها على البنوك. من شأن ذلك تحرير المزيد من رأس مال البنوك وزيادة ربحيتها، على الرغم من أنه سيرفع أيضاً من مستويات المخاطرة لديها.
في المقابل، حققت العديد من أسواق الأسهم غير الأميركية نتائج متباينة في أحسن الأحوال بعد الانتخابات. كانت الأسواق الأوروبية من بين الأضعف أداءً؛ بسبب مزيج من المخاوف بشأن الأمن الأوروبي في ظل رئاسة ترامب وتأثير الرسوم الجمركية على الصادرات. كما تراجعت أسهم الشركات التي تستثمر في قطاع الطاقة البديلة. على سبيل المثال، انخفضت أسهم شركة فيستاس الدنماركية لصناعة توربينات الرياح، الموضحة في الرسم البياني أعلاه، بشدة في اليوم التالي للانتخابات. يدرك المستثمرون أن إدارة ترامب 2.0 ستشهد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، وعلى الأرجح إلغاء معظم الدعم لمصادر طاقة الرياح والطاقة البديلة الأخرى.
1. الثورة تمنح مجالاً واسعاً لإعادة رسم السياسات
تعد هذه أهم ثورة سياسية منذ انتخاب رونالد ريغان في عام 1980، عندما خفض ريغان الضرائب وبدأ حملة واسعة لإلغاء القيود التنظيمية. بلغت هذه الحملة ذروتها لاحقاً في عهد الرئيس كلينتون، عندما قام وزير الخزانة آنذاك بتعزيز المخاطرة العدوانية للبنوك الأميركية الكبرى من خلال تنسيق إلغاء قانون غلاس-ستيغال الذي يعود إلى عصر الكساد الكبير.
ما زال من غير الواضح ما ستسفر عنه الولاية الثانية لترامب، ولكن الفوز الساحق لفريق مناهض تماماً للمؤسسة السياسية يمنح ترامب تفويضاً لإجراء تغييرات جذرية في الحكومة الأميركية، شريطة أن يثبت فريقه مهارة كافية في استغلال هذا التفويض. قد يشمل ذلك خفض الإنفاق وتخفيض الضرائب واتخاذ إجراءات واسعة النطاق لإلغاء القيود التنظيمية، وبالطبع فرض رسوم جمركية ضخمة تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي. أما في مجال العلاقات الخارجية، فسيتمتع ترامب بالسلطات الواسعة التي يمنحها الدستور الأميركي للرئيس.
من المهم الإشارة إلى أن «ترامب 2.0» سيختلف جوهرياً عن «ترامب 1.0»، فقد افتقر ترامب، في إدارته الأولى، للخبرة السياسية وحصل على أصوات شعبية أقل من هيلاري كلينتون، واختار العديد من الشخصيات التقليدية لمناصب رئيسية قيدت تحركاته. رغم وجود بعض التحركات السياسية الملحوظة، اتسمت صناعة السياسات بالكثير من الارتباك. لقد استفاد ترامب من تلك التجربة ويمتلك الآن فريقاً أكثر خبرة واحترافية، وأكثر اتساقاً في معارضته للمؤسسة السياسية التقليدية. كما سنناقش لاحقاً، يتمتع ترامب أيضاً بإمكانية الوصول إلى أصحاب المليارات الأقوياء الذين يقدمون «خدماتهم» لرسم السياسات.
2. رد فعل السوق: الأمور لا تسير في خط مستقيم
قبل الانتخابات، رسم الكثيرون سيناريوهات حول كيفية استجابة السوق في حالة فوز ترامب. أثبتت ردة الفعل الأولية صحة معظم هذه التوقعات: ارتفعت الأسهم، وحققت أسهم الشركات الصغيرة والبنوك قفزات كبيرة، وارتفع الدولار الأميركي بحدة، وظلت عوائد سندات الخزانة الأميركية مرتفعة. كل ذلك بناءً على توقعات بازدهار الاقتصاد الأميركي في ظل أجندة ترامب الداعمة للأعمال التجارية.
لكن هل ستسير الأمور بهذه البساطة؟ ماذا لو تحرك ترامب سريعاً في فرض الرسوم الجمركية، التي تسبب التضخم وتضر بالنمو، بينما تباطأ أو امتنع عن خفض الضرائب على الشركات بسبب مخاوف بعض أعضاء الكونغرس من تفاقم العجز في الميزانية؟ ماذا لو تمردت أسواق سندات الخزانة الأميركية على سياسات ترامب وارتفعت أسعار الفائدة بشكل حاد، مما يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد وجمود أسواق الائتمان؟
باختصار، هناك عوامل متعددة يمكن أن تحرك الأسواق في كلا الاتجاهين. لذا يتعين على المستثمرين توخي الحذر؛ خاصة وأننا لا نعرف بعد ما ستحمله «الأيام المائة الأولى» للرئاسة الجديدة.
3. انعكاسات عالمية واسعة النطاق
باعتبارها أكبر اقتصاد في العالم، فإن أي تغيرات في الطلب الاستهلاكي الأميركي، سنلحظ آثارها على نطاق واسع، كما هو الحال مع أي تحركات في أسواق الأسهم والسندات الأميركية - الأكبر عالمياً بفارق شاسع.
اقتصادياً، يمكن للرسوم الجمركية التي سيفرضها ترامب أن تؤثر على التضخم العالمي (ارتفاعاً في الولايات المتحدة، وانخفاضاً محتملاً في أماكن أخرى) والنمو الاقتصادي العالمي. وإذا أدت سياسات ترامب إلى ارتفاع حاد في عوائد سندات الخزانة الأميركية وقيمة الدولار، فسيؤدي ذلك إلى تشديد الأوضاع المالية العالمية.
علاوة على ذلك، هناك التأثيرات الجيوسياسية المباشرة التي يمكن أن تنجم عن قرارات الرئيس الأميركي، الذي يتمتع بقدر كبير من الحرية في تحركات السياسة الخارجية. وتعتبر الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط من القضايا الأكثر إلحاحاً التي ستؤثر فيها قرارات ترامب بشكل كبير، فضلاً عما إذا كان سيستهدف الصين برسوم جمركية كبيرة.
هل سترد الصين على ذلك؟ أم ستحاول إقناع ترامب بإبرام صفقة مناسبة له وتتجنب أسوأ الآثار المتوقعة؟ بصفة عامة، يحمل سيناريو «ترامب 2.0» إمكانيات كبيرة لتغيير قواعد اللعبة في الاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية؛ نظراً للتفويض القوي الذي يمتلكه ترامب، ولأنه يتعارض مع الكثير من الأجندة التقليدية التي اعتمدتها إدارة بايدن.
في الختام، يمثل فوز ترامب في الانتخابات تحولاً جذرياً قد يؤثر على السياسات الأميركية والعالمية على حد سواء. وستشكل التغييرات المحتملة في السياسات الاقتصادية والتجارية، بالإضافة إلى التأثيرات الجيوسياسية، واقعاً جديداً للعلاقات الدولية والاقتصاد العالمي. ومن المهم متابعة التطورات القادمة بعناية لفهم كيفية تأثير هذه التغيرات على الأسواق المالية والعالم بشكل عام.