شهدت التكنولوجيا المالية (FinTech) في العالم العربي تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة، مدفوعة بالتطور الهائل والمتسارع في التكنولوجيا على مستوى العالم حيث أسهمت وسائل الاتصال الحديثة في دمج الأدوات الرقمية مع النظم المالية والاقتصادية.
وتحولت البنوك وشركات الاتصالات والحلول الرقمية في معظم الدول العربية إلى تقديم الخدمات المالية إلكترونياً واستحداث المحافظ الإلكترونية، وانتقلت أنشطة تجارية وتعاملات مالية عدة للأفراد إلى الإنترنت، ما أدى إلى تعزيز التبادل التجاري البيني في العالم العربي.
كما باتت هذه التقنيات المالية أحد المحركات الرئيسة للتحول الرقمي عربياً، فمع تطور الخدمات المصرفية وزيادة الطلب على الحلول المالية الرقمية، وتزايد استخدام الهواتف الذكية والتوجه نحو الشمول المالي، أصبح هذا القطاع يشهد نمواً واهتماماً من الحكومات والقطاع الخاص على حد سواء، رغم التحديات التي يواجهها والمخاطر التي تستوجب المعالجة والحل وهو ما أكده خبراء اقتصاد وأساتذة جامعات متخصصين بهذا المجال استطلعت «ارم بزنس» آراءهم.
رغم التطور في مجال التكنولوجيا المالية في العالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، وارتفاع عدد الشركات الناشئة في القطاع، مدعوماً بالتطور الاقتصادي العالمي وتزايد الطلب على الخدمات الرقمية والحلول المبتكرة، إلا أن هذا التقدم كان متفاوتاً، فقد سجلت دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، تقدما ملحوظا في هذا المجال بفضل الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية الرقمية واستقطاب كبرى شركات العالم للاستثمار إضافة إلى تجمّع الأنشطة التجارية العالمية فيها.
وتأتي مصر والأردن ولبنان في مراتب متقدمة نسبياً بسبب تركيزها على دعم الشركات الناشئة وتشجيع الابتكار في القطاع. وفي المقابل، ظل تقدم فيتكنولوجيا المالية أقل تطورا في الدول التي تعاني صراعات أو تخصص موارد محدودة للاستثمار في التكنولوجيا، ما أدى إلى فجوة في الاستفادة من الإمكانيات التي توفرها الحلول المالية الرقمية على مستوى الأفراد والمؤسسات.
أكد وزير المالية الأردني الأسبق ورئيس مجلس إدارة بنك صفوة الإسلامي محمد أبو حمور في تصريح لـ«ارم بزنس» أن قطاع التكنولوجيا المالية في الوطن العربي آخذ بالتطور بفضل التقدم السريع في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ما أسهم في ظهور حلول مبتكرة مالية ومصرفية.
وأشار الوزير الأسبق إلى أن التكنولوجيا المالية أصبحت في العديد من الدول العربية من أهم الصناعات الواعدة، حيث توفر فرصا كبيرة للاستثمار وتسهم في تعزيز النمو الاقتصادي.
أبو حمور أوضح أيضاً أن الإمارات تتصدر الدول العربية في عدد شركات التكنولوجيا المالية، بينما تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بأعلى نسبة من الشركات التي تعتمد على هذه التكنولوجيا، حيث تمثل 43% من الشركات في المنطقة.
إلى ذلك أظهرت الإحصائيات أن المدفوعات غير النقدية في الإمارات ازدادت من 39% في عام 2018 إلى 73% في عام 2023، بينما يتوقع أن يتجاوز حجم تمويل مشروعات التكنولوجيا المالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 925 مليون دولار في عام 2022، بزيادة قدرها 58% مقارنة بالعام الذي قبله.
من جهته أكد أستاذ الاقتصاد في جامعة اليرموك قاسم الحموري أن تطور التكنولوجيا المالية بفضل وسائل الاتصال الحديثة، أسهم في تحقيق تزاوج واضح بين الاستثمارات المالية والاقتصادية والتكنولوجيا، ما جعل معظم الشركات والأفراد على حد سواء يعتمدون على التكنولوجيا المالية لتحويل أموالهم وإدارة تجارتهم عبر الإنترنت، وهو ما عزز التبادل التجاري في الأصل بين الدول العربية وسهل المعاملات المالية بينها على حد تعبيره.
بحسب منصة «مورد إنتليجنس» نمت التكنولوجيا المالية بشكل متسارع في المنطقة حيث بلغ حجمها ضمن سوق القطاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 1.36 مليار دولار في عام 2023، فيما من المتوقع أن يصل إلى 2.40 مليار دولار بحلول عام 2029، بمعدل نمو سنوي يبلغ 9.71%.
مجموعة «آي إم آر سي» (IMARC)، شركة الاستشارات والأبحاث العالمية، ذكرت من طرفها أن حجم سوق التكنولوجيا المالية العالمية بلغ إلى 158.9 مليار دولار في عام 2022، لتتوقع وصولها إلى 449.1 مليار دولار بحلول عام 2028، بـ17.7% معدل نمو سنوي خلال الفترة 2023-2028، ما يعني أن حجم الاستثمار بالتكنولوجيا المالية في المنطقة العربية رغم تطوره ما زال متواضعا مقارنة بحجمه على مستوى العالم ككل.
أستاذة التكنولوجيا المالية في جامعة عمان الأهلية، مها شحادة، اعتبرت في حديثها إلى «إرم بزنس» أن خير دليل على النمو المتسارع للقطاع هو تقرير كان صدر عن شركة «ماكنزي» العالمية، قدر ان إيرادات القطاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وصل إلى نحو 1.5 مليار دولار قبل عامين، مع توقعات ارتفاع تلك الإيرادات إلى 3.5 مليار دولار بحلول عام 2025.
يأتي النمو في التكنولوجيا المالية في العالم العربي جراء زيادة الاعتماد على الخدمات الرقمية مثل ارتفاع استخدام المحافظ الإلكترونية وخدمات الدفع عبر الهواتف الذكية، علاوة على ظهور منصات التمويل الجماعي كأداة أساسية لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسط، والتوسع الإقليمي بشكل عام.
وبدأت شركات التكنولوجيا المالية العربية بالتوسع خارج حدودها المحلية لتقديم خدماتها في أسواق جديدة، ودخول التكنولوجيا الحديثة مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات المالية وتقديم حلول مبتكرة.
أدركت الحكومات العربية أهمية التكنولوجيا المالية في تحقيق الشمول المالي والنمو الاقتصادي، وأطلقت مبادرات لدعم الشركات الناشئة وتعزيز بيئة الأعمال، كما كانت البنوك المركزية في بعض الدول العربية محفزا رئيسا لنمو هذا القطاع المالي المهم، ففي الإمارات تم تأسيس «فينتك هايف» (FinTech Hive) في مركز دبي المالي العالمي، أول مركز أعمال متخصص في التكنولوجيا المالية في المنطقة، كما إطلاق مكتب التكنولوجيا المالية من قبل البنك المركزي لدعم الابتكار.
أما السعودية فقد أطلقت برنامج «فنتك السعودية» في 2018 بهدف تطوير بيئة تنظيمية تدعم الابتكار في الخدمات المالية وعمل صناع القرار في السعودية على تشجيع استخدام التكنولوجيا المالية في مجالات مثل التأمين والتمويل الشخصي ودعم التطبيقات المبتكرة.
في مصر تم تأسيس «مركز التكنولوجيا المالية والابتكار» من قبل البنك المركزي المصري لدعم الشركات الناشئة وأُطلقت مبادرات لتعزيز خدمات الدفع الرقمي وتمويل المشاريع الصغيرة. فيما كان البنك المركزي الأردني داعما لمشاريع مثل نظام الدفع الإلكتروني «إي فواتيركم»، وإنشاء صندوق الريادة الأردني لتشجيع الابتكار في التكنولوجيا المالية لاستخدامها في المعاملات المالية اليومية. كما وجهت الحكومة الأردنية إلى التعامل مع شركة «اي فواتيركم» من خلال تلقي الرسوم المتعلقة بدائرة الأراضي والمساحة أو الترخيص للمركبات والمحاكم أو أية رسوم حكومية عبر هذه الشركة. وفي قطر تم إطلاق مركز قطر للتكنولوجيا المالية لتعزيز الابتكار في القطاع المالي.
قال أبو حمور إن البنوك المركزية تلعب دوراً رئيساً في سبيل تطوير التكنولوجيا المالية وذكر البنك المركزي الأردني مثالاً، إذ يسعى من خلال رؤيته الاستراتيجية إلى جعل الأردن مركزاً إقليمياً للابتكار في هذا المجال، عبر تعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة الخدمات المالية بما يتماشى مع رؤية التحديث الاقتصادي 2033، لافتا إلى ان البنك المركزي يعمل على دعم الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية، مع توفير بيئة تنظيمية ملائمة تشجع الابتكار وتعزز الاستثمارات في القطاع.
من جهتها، قالت شحادة، أن القطاع بات يحظى باهتمام كبير من البنوك المركزية والوزارات المعنية بالاقتصاد في معظم الدول العربية، نظرا لدوره في تحقيق الشمول المالي، مشيرة إلى تجربة «المركزي الأردني»، الذي أجرى دراسات وافية في هذا المجال، لدعم حاضنات الأعمال الريادية. كما لفتت إلى وجود العديد من الشركات التي تنشط في مجالات مختلفة ضمن نطاق التكنولوجيا المالية، ما يعكس تنوع القطاع واتساعه.
شهدت الدول العربية ظهور عدد من الشركات الناشئة قدمت حلولاً مبتكرة منها شركة «ثقة» التي تقدم حلول إدارة الائتمان للشركات و«تاب باي» التي تسهل عمليات الدفع الإلكتروني في السعودية، كما برزت شركات في الامارات مثل «بيهايف» وهي منصة تمويل جماعي تربط الشركات الصغيرة بالمستثمرين، و«تابي» التي تقدم خدمة «اشترِ الآن وادفع لاحقًا».
كما ظهرت في الأردن شركات في القطاع مثل «دينارك» وهي منصة دفع إلكتروني عبر الهواتف المحمولة علاوة على المحافظ المالية عبر شركات الاتصالات وتقنيات الموبايل والتي تقدم خدمات تحويل الأموال. وفي مصر تم تأسيس أكبر منصة مدفوعات الكترونية «فوري»، وتطبيق «موني فيلوز» الذي يقدم خدمات التمويل الجماعي، وشركة «بنفت» في البحرين لتقديم حلول الدفع الرقمي وخدمات مالية مبتكرة.
رغم النمو الملحوظ في التكنولوجيا المالية عبر العالم العربي، يواجه القطاع تحديات عدة أبرزها البنية التحتية الرقمية حيث تتفاوت جاهزيتها بين الدول، والتشريعات التي تتسم ببطء إصدار القوانين المنظمة لهذا القطاع، علاوة على الثقة الرقمية من حيث تردد بعض العملاء في استخدام الخدمات المالية الرقمية، خصوصا في ظل عمليات القرصنة أو «النصب» على الإنترنت، إضافة إلى زيادة عدد الشركات الناشئة بشكل متسارع ما قد يؤدي إلى تضييق فرص النجاح للبعض.
أبو حمور علق: «بالرغم من النمو الكبير، يواجه القطاع تحديات تتعلق بالبيئة التنظيمية والبنية التحتية لخدمات الإنترنت، إضافة إلى المخاوف من الهجمات السيبرانية ونقص الثقافة المالية لدى بعض المواطنين».
كما أكدت مها شحادة، أن التكنولوجيا المالية في الدول العربية رغم تطورها الهائل، إلا أن التوازن بين الابتكارات المالية والمخاطر التي قد تواجهها أمر ضروري لاستمرار النمو بشكل آمن.
وتناولت شحادة أبرز التحديات التي تواجه التكنولوجيا المالية متفقة مع أبو حمور بشأن مخاطر الهجمات السيبرانية، وضرورة تعزيز أطر الأمان لمواجهة هذه التحديات وحماية البيانات المالية، وتوفير التشريعات القانونية اللازمة لهذا القطاع لافتة إلى أن القوانين التقليدية لا تنطبق على التكنولوجيا المالية، ما يتطلب وضع تشريعات جديدة تنظم القطاع.
شددت شحادة أيضاً على أهمية توفير بنية تحتية رقمية متكاملة، خصوصاً في ظل توقعات بدخول العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية لتحويل العملات الورقية إلى رقمية. وأوضحت أن القطاع يشهد تسارعا في النمو، لا سيما مع دخول الذكاء الاصطناعي في بعض الدول، وتوقع إدخال مفاهيم جديدة من التكنولوجيا المبتكرة مستقبلا
في السياق ذاته، لفت قاسم الحموري، أنه رغم الفوائد من التكنولوجيا المالية، إلا أن القطاع يواجه تحديات، أبرزها الممارسات غير الأخلاقية مثل الاحتيال والنصب الإلكتروني، ما جعل البعض يتجنب التعامل مع التكنولوجيا المالية، وضعف الوعي بين المستخدمين بشأن كيفية تأمين حساباتهم ومحافظهم الإلكترونية وسهولة الاختراق بسبب عدم اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة، ما يزيد المخاطر، علاوة على ضعف البنية التحتية للإنترنت حيث أشار إلى أن عدم انتشار الإنترنت بشكل كامل في العديد من الدول العربية يحد من الاستفادة الكاملة من التكنولوجيا المالية رغم أن الحكومات العربية أكبر المستفيدين من هذا القطاع من خلال الرسوم والضرائب على المعاملات.
وشدد الخبير الاقتصادي الحموري على أهمية توفير حماية قانونية واضحة لحماية المؤسسات والأفراد على حد سواء، داعياً إلى تدخل الحكومات لتطوير التشريعات ووضع آليات لمكافحة الاحتيال الإلكتروني، إضافة إلى تحسين البنية التحتية للإنترنت في الدول العربية مشددا في الوقت ذاته على ضرورة تعزيز الثقة في التكنولوجيا المالية عبر الجهود المشتركة من جميع الأطراف، بما يضمن الاستفادة المثلى من هذا القطاع الواعد وتحقيق التنمية الاقتصادية.
تظل التكنولوجيا المالية حجر الزاوية في تعزيز الشمول المالي ودعم النمو الاقتصادي في العالم العربي، ورغم التحديات التي تواجهها، من نقص في البنية التحتية الرقمية إلى المخاطر السيبرانية، فإن التوجه نحو الابتكار واستخدام الحلول الرقمية يفتح آفاقا واسعة للاستثمار والتنمية، ويحمل إمكانيات هائلة لدفع عجلة الابتكار والشمول المالي، مع استمرار الدعم الحكومي وزيادة استثمارات القطاع الخاص، ليصبح هذا القطاع أحد أعمدة الاقتصاد الرقمي في المنطقة.