لا يتردد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إطلاق المبادرات الكبرى. يوم الأحد في الـ2 من مارس 2025، أعلن عبر منصته «تروث سوشال» عن خطة طموحة ومثيرة للجدل تقضي بإنشاء «احتياطي استراتيجي للعملات الرقمية» الأميركية يضم بيتكوين، وإيثيريوم، و(XRP)، وسولانا، وكاردانو.
في ما يأتي رصد لوحدة البحوث والدراسات في «إرم بزنس» لتفاعل الأسواق مع هذا الإعلان، وتحليل لما تعنيه هذه الخطة بالنسبة إلى الأسواق والاقتصادات العالمية، بما فيها اقتصادات دول الخليج.
يمثل إعلان ترامب عن إنشاء احتياطي استراتيجي للعملات الرقمية، تحوّلاً جذرياً في سياسة الولايات المتحدة التي كانت تنظر إلى الأصول الرقمية في عهد سلفه جو بايدن، بعين الريبة والتشدد التنظيمي. ويروّج ترامب حالياً للفكرة «كضربة معلم» لاستعادة الهيمنة الأميركية في اقتصاد العملات الرقمية المزدهر. أما المنتقدون، فيرونها مجرد «مقامرة متهورة» في مجال غير مستقر.
ربما يكون الطرفان على حق.
نشأت الفكرة في يناير الماضي، عندما وقّع ترامب أمراً تنفيذياً بشأن الأصول الرقمية، موكلاً لمجموعة عمل رئاسية مهمة استكشاف إنشاء مخزون رقمي وطني. كان الهدف حينها تحويل العملات المشفرة المصادرة من عمليات إنفاذ القانون -كما في حالة «طريق الحرير» سابقاً- إلى أصل استراتيجي. الآن، حدّد الرئيس عملاته المختارة، وهي مزيج من العملات الثقيلة، مثل: بيتكوين: وإيثيريوم: والعملات الأخرى البديلة، مثل: سولانا وكاردانو. والرسالة من ذلك واضحة، وهي أن أميركا، في رؤية ترامب، لن تكتفي بتنظيم الغرب المتوحش للعملات الرقمية، بل ستسعى إلى امتلاك نصيب من ثرواته.
كذلك، يبدو توقيت هذه الخطوة لافتاً. ففي ولايته الأولى، رفض ترامب بيتكوين واصفاً إياها بأنها «ليست نقوداً» وبأنها «خدعة». وبالتالي، فإن هذا التحول اليوم يعكس تقاطع جملة من العوامل، منها: لوبي مؤيد للعملات الرقمية؛ حزب جمهوري متزايد الشغف بإلغاء القيود؛ وميل شخصي للقومية الاقتصادية اللافتة.
مع تشديد الصين قبضتها على اليوان الرقمي، وتكديس السلفادور لبيتكوين، تخاطر الولايات المتحدة بفقدان موطئ قدم في لعبة جيوسياسية لم تعد العملات فيها مجرد ورق. ومن هنا تأتي «قمة العملات الرقمية» التي من المقرر أن تُعقد في البيت الأبيض يوم الجمعة في الـ7 من مارس، لتوضح التفاصيل في هذا الشأن، وما إذا كانت الإدارة الأميركية قادرة على التوفيق ما بين أطراف تحالفها المتنافر: عشاق التكنولوجيا، والصقور المالية.
لم يكن مستغرباً أن تتفاعل أسواق العملات الرقمية بحماسة مع إعلان ترامب. ارتفعت عملة بيتكوين بنسبة 10% تقريباً لتتجاوز 92 ألف دولار. أما عملة سولانا، فارتفعت 24% معززة جاذبيتها بالنسبة إلى عشاق التمويل اللامركزي، فيما قفزت (XRP) 31%، في إشارة إلى ثقة متجددة في معارك «ريبل» القانونية مع الجهات التنظيمية الأميركية.
لكن، وفي كواليس حفلة الابتهاج هذه، تكمن مخاوف لا يمكن تجاهلها. فالعملات الرقمية متقلبة بطبيعتها، وهو ما يؤكده تاريخ بيتكوين المليء بالصعود والهبوط، ومن شأن المخزون الحكومي أن يضخم هذا التقلب. فإذا بدأت الولايات المتحدة الشراء بجدية، قد ترتفع الأسعار بشكل صاروخي. وبالعكس، إذا باعت، قد ينهار السوق. أما بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي لا يزال يعاني ندوبَ التضخم من عهد بايدن، فعلى الأرجح لن يرحب بهذا العامل الجامح.
كما هي الحال مع معظم قرارات ترامب، لاقت الخطة المقترحة معارضة داخلية. وفي هذا الشأن، قالت السيناتور إليزابيث وارن (ديمقراطية من ماساتشوستس) المشككة في العملات الرقمية، إن هذه الخطة عبارة عن «هدية للمليارديرات والمحتالين». ومن وجهة نظرها، أن صورة حكومة تكدّس أصولاً مضاربية، بينما تعاني الطبقة الوسطى أعباء معيشية، ليست صورة مشجعة.
كذلك، فإن التحديات اللوجستية شاقة. كيف ستوفر وزارة الخزانة هذه الكنوز الرقمية من القراصنة؟ وهل ستعتمد على أمناء خاصين، ما يثير مخاطر المحسوبية؟ إن إشارة الأمر التنفيذي إلى المصادرات القانونية تقدّم نقطة انطلاق، لكن التوسع هنا يتطلب موافقة الكونغرس، وهو أمر صعب في حالة واشنطن اليوم.
بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط، قد يكون رهان ترامب الرقمي سلاحاً ذا حدين. فالسعودية والإمارات اللتان بدأتا بالفعل استكشاف تقنية «البلوكتشين» لتنويع اقتصادهما بعيداً عن النفط، قد تجدان في الاحتياطي الأميركي من العملات المشفرة تأكيداً لطموحاتهما الرقمية، وهذا قد يعطي زخماً لـ«رؤية 2030» في الرياض، ومراكز دبي الصديقة للعملات الرقمية. لكن من جهة أخرى، فإن دولاراً أقوى مدعوماً بثقة المستثمرين الناتجة عن العملات الرقمية، قد يضغط على عملاتهما المربوطة بالدولار، ما يرفع تكاليف الواردات ويربك الميزانيات.
أما اللاعبون الأصغرون البطيئون في تبني الأصول الرقمية، مثل: قطر والبحرين، فقد يشعرون بضغط لمواكبة هذه الخطة، أو المخاطرة بفقدان نفوذهم المالي للغرب المتحمس حديثاً للثروة الافتراضية.
وبالنسبة إلى أسواق الطاقة التي تعتبر شرياناً رئيساً لاقتصادات الخليج، فإنها لم تتفاعل بشكل كبير بعد مع هذه الخطة، لكن تحولاً في تدفقات رأس المال العالمية قد يهدد يوماً ما هيمنة النفط.
وعلى المستوى العالمي، قد تكون التداعيات عميقة. فوجود احتياطي أميركي من العملات الرقمية، قد يدفع حلفاء، مثل: الاتحاد الأوروبي، الذي لا يزال متردداً بشأن تشريعات (MiCA)، إلى تسريع استراتيجياتهم الخاصة بالأصول الرقمية. وبدورها، قد ترى الدول الناشئة التي تستخدم العملات الرقمية كحماية من التضخم، في خطوة أميركا هذه تهديداً لسيادتها النقدية. وهناك الصين، التي يخفي حظرها للعملات الرقمية طموحاتها في «البلوكتشين»؛ ما يعني أن «احتياطي ترامب» قد يحوّل سباقاً هادئاً إلى مواجهة مفتوحة.