بعد الانهيار المفاجئ للنظام السوري، وعدم اتضاح الدور الذي ستؤديه «هيئة تحرير الشام» التي قادت عملية إسقاط النظام، في سوريا «ما بعد الأسد»، ارتأت العديد من الحكومات الغربية إبقاء خياراتها مفتوحة في وقت بات من المرجح أن تصبح «الهيئة» لاعباً رئيساً في المشهد السوري.
أبدت بعض الحكومات الغربية انفتاحها على العمل مع حكام سوريا الجدد، الذين تشملهم قوائمها للإرهاب حتى اللحظة، وهي تراقب «أفعالهم لا أقوالهم»، ما فتح الباب أمام احتمالات الإفراج عن أموال النظام السابق المجمّدة في البنوك الغربية، بعدما استفاق السوريون على بلد خالٍ من الأسد ومن الأموال.. بلد أُفرغت خزائنه. بَيد أن شبح السيناريو الليبي يلقي بظلاله.
الآن، مع خروج الأسد من دمشق، بدأ السوريون الذين يعيش 90% منهم تحت خط الفقر وفق تقديرات الأمم المتحدة، جراء سنوات من الحرب المدمرة، يبحثون عن أرقام تصف الثروة الهائلة التي جمعتها عائلته طوال حكم مَديد تجاوز نصف قرن بُني على فساد عميق وهيمنة اقتصادية مطلقة.
رغم العقوبات الغربية، ظلت ثروة عائلة الأسد محصنة إلى حد كبير، بعد أن أُخْفِيَت في حسابات سرية وشركات وهمية متناثرة، إذ نجحوا في إنشاء نظام معقد من الشركات الواجهة والوسطاء والحسابات الخارجية يضمن امتصاص أجزاء رئيسة من موارد البلاد، بما في ذلك قطاعات رئيسة، مثل الاتصالات والعقارات والنفط والخدمات المصرفية.
في تقرير وصف بـ«المتسرّع» و«المنقوص» من قبل الأوساط السورية المعارضة، لكنه الوحيد الذي يحمل صفة رسمية، أشارت وزارة الخارجية الأميركية عام 2022 إلى أن صافي ثروة عائلة الأسد يتراوح بين مليار وملياري دولار. لكن التقرير ذاته شدّد على أن هذا التقدير «غير دقيق» ويتعذر على وزارة الخزانة الأميركية التحقق منه بشكل مستقل «نظراً إلى استناده إلى معلومات مفتوحة المصدر».
الصعوبة في تقدير صافي ثروة الأسد وأفراد عائلته بشكل دقيق، ناجمة عن كون تلك الأصول منتشرة ومخفية في العديد من الحسابات ومحافظ العقارات والشركات والملاذات الضريبية الخارجية، إذ أوضح التقرير أنه «من المرجح أن تكون أي أصول خارج سوريا لم يُسْتَوْلَ عليها أو تُجمَّد، محتفظاً بها بأسماء مستعارة أو من قبل أفراد آخرين، لإخفاء الملكية والتهرب من العقوبات».
وفقاً لتقارير المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام، أدارت عائلة الأسد نظاماً معقداً يخترق جميع قطاعات الاقتصاد السوري، ويشمل شركات وهمية وشركات واجهة تعمل كأداة للنظام للوصول إلى الموارد المالية عبر هياكل شركات شرعية وكيانات غير ربحية، وغسل الأموال المكتسبة من الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، بما في ذلك التهريب وتجارة الأسلحة والمخدرات وعمليات الحماية والابتزاز.
غير أن صحيفة «فاينانس مانثلي» (Finance Monthly) البريطانية نشرت قبل أيام تقديرات مرعبة، تشير إلى أن إجمالي ثروة نظام الأسد قد يتراوح بين 60 مليار دولار و122 مليار دولار، إذا ما أُخذت في الحسبان أصولهم العقارية والنفطية والفنية فضلاً عن السيولة النقدية.
أواخر 2019، كشفت صحيفة «فاينانشال تايمز» عن امتلاك عائلة بشار الأسد 18 شقة فاخرة تقدّر قيمتها بعشرات الملايين من الدولارات في مُجمع «مدينة العواصم» في العاصمة الروسية موسكو، وهو ناطحة سحاب كانت ذات يوم الأطول في أوروبا، ما يجعل من بشار الأسد الذي منحته روسيا حق اللجوء أغنى لاجئ إطلاقاً.
مارس كل من بشار وأسماء الأسد نفوذاً كبيراً على اقتصاد سوريا. وقد أدرج مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية بشار الأسد على قائمة العقوبات في 2011، وأسماء الأسد في 2020.
وسّعت قرينة الأسد نفوذها في مجال الاتصالات والقطاع غير الربحي في السنوات الأخيرة. وفي عام 2019، سحبت السيطرة على «جمعية البستان» من ابن خال بشار الأسد رامي مخلوف. في العام ذاته، أسست أسماء شركة الاتصالات «إيماتيل» مع رجل الأعمال السوري خضر علي طاهر الذي شملته العقوبات الأميركية إلى جانب الشركة، فيما استلم مقربون منها إدارة شركة «سيريتل»، أكبر شركة اتصالات في سوريا، التي كانت ملكاً لمخلوف حتى استولت عليها الحكومة في عام 2020.
ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، الذي قاد «الفرقة الرابعة» سيئة الصيت، كان يعمل من خلالها رئيساً لشبكة متورطة في أنشطة غير مشروعة. وقد فرضت حكومة الولايات المتحدة عقوبات عليه وعلى «الفرقة الرابعة» في يونيو 2020.
كانت شبكة ماهر الأسد تستفيد من أعمال تجارية في قطاعات الاتصالات والمقاولات وتكنولوجيا المعلومات والهندسة والطاقة والسياحة، التي كان محمد حمشو، أحد كبار رجال الأعمال في سوريا، واجهة لها، إلى جانب علاقة ماهر الوثيقة مع عائلة قاطرجي، التي كانت شركاتها وميليشياتها تدير آبار النفط في مناطق النظام، وفي الماضي سهلت تجارة الوقود بين النظام وداعش؛ وخضر علي طاهر، رجل الظل الذي نظّم جمع رسوم الحماية والإتاوات من الأنشطة التجارية وتحصيل الرسوم على الحواجز والمعابر.
هذا إلى جانب تورط «الفرقة الرابعة» في عمليات تهريب المخدرات، بما في ذلك الكبتاغون، الذي تقدر أرباح النظام السوري السنوية منه بنحو 2.4 مليار دولار، وفق دراسة أعدها «مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية» (Observatory of Political and Economic Networks)، وهي منظمة غير ربحية تجري أبحاثاً حول الجريمة المنظمة والفساد في سوريا، فيما تشير تقديرات أخرى إلى ما يزيد على 5 مليارات.
كان رامي مخلوف أحد أغنى وأقوى رجال سوريا، إذ تحكّم في وقت ما بجزء كبيرة من الاقتصاد السوري. وقد فرضت الحكومة الأميركية عقوبات عليه منذ عام 2008، بسبب استفادته من الفساد العام. كان مخلوف يمتلك 50% في شركة «شام»، أكبر شركة قابضة في البلاد، التي صنفها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في أميركا إلى جانب شركات أخرى مملوكة لمخلوف ضمن قائمة العقوبات في عام 2011.
اختلف مخلوف علناً مع الأسد في ربيع عام 2020، ووُضع تحت الإقامة الجبرية في اللاذقية، فيما وضعت السلطات السورية العديد من مصالحه التجارية تحت الحراسة القضائية. وتتراوح تقديرات المصادر المفتوحة لثروة مخلوف بين 5 و10 مليارات دولار.
ضمن إمبراطورية آل الأسد يبرز أيضاً اسم شقيق رامي، إيهاب مخلوف، الذي يمتلك استثمارات في قطاع الخدمات المالية والمصرفية ويدير أكثر من 200 مكتب صرافة في دمشق. وعم بشار، رفعت الأسد، الذي صادرت الحكومة الإسبانية في عام 2017 ما قيمته 740 مليون دولار من أصوله العقارية في إسبانيا، بعد أن ورد اسمه في تحقيق أوروبي حول غسل الأموال.
في يونيو 2020، حكمت محكمة فرنسية على رفعت الأسد بالسجن لمدة أربع سنوات بتهمة غسل الأموال المنظم والاحتيال الضريبي واختلاس الأموال السورية، وصادرت ممتلكاته وحساباته في باريس ولندن. قبل المصادرة، قُدر إجمالي محفظة العقارات الخاصة برفعت الأسد بنحو 850 مليون دولار، فيما عاد إلى سوريا في أكتوبر 2021 لتجنب السجن.
يضاف إليهم ذو الهمة ورياض شاليش، ابنا عمة بشار الأسد، إذ تقدر وسائل الإعلام صافي ثروة عائلة شاليش بأكثر من مليار دولار، من مصالحها التجارية وأنشطة التهريب وغسل الأموال.
التعقيد الذي طال بناء ثروة آل الأسد، أعاق استهدافها بالعقوبات التي فرضتها الدول الغربية، إذ تلقى السوريون بذهول إعلان الحكومة السويسرية يوم الأربعاء، بأن إجمالي الأصول السورية المجمدة في سويسرا يبلغ 99 مليون فرنك سويسري (112 مليون دولار) فقط.
يفرض الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وأميركا أنظمة عقوبات مستقلة رداً على قمع النظام السوري للحراك الذي بدأ في عام 2011. وقد جُمِّدَت أصول البنك المركزي السوري في الاتحاد الأوروبي. وتستهدف التدابير الأوروبية التقييدية المعمول بها حالياً في ما يخص سوريا، ما مجموعه 316 شخصاً و86 كياناً يخضعون لتجميد الأصول إلى جانب عقوبات أخرى.
في عام 2012، قالت شبكة «بي بي سي» إن السلطات البريطانية جمدت أصولاً بقيمة 100 مليون جنيه إسترليني مملوكة لقادة في النظام السوري. في حين كشف موقع The Syria Report المتخصص في شؤون الاقتصاد السوري في أبريل الماضي، أن لندن تحتفظ بـ163.2 مليون جنيه إسترليني من الأصول المجمدة لأفراد وكيانات سورية بموجب العقوبات البريطانية. كما صادرت السلطات البريطانية عقاراً بقيمة 26 مليون جنيه من رفعت الأسد في لندن.
أما العقوبات الأميركية على سوريا، فتعود بداياتها لعام 1979، عندما وضعتها واشنطن على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو ما أدى إلى فرض حظر على الصادرات والمبيعات الدفاعية وقيود مالية. وفي مايو 2004، فُرِضَت ضوابط إضافية على الاستيراد والتصدير بموجب «قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية»، كما فُرِض تجميد للأصول السورية في عام 2011.
وقد حدث تقدم كبير في العقوبات المفروضة على النظام السوري بعد إقرار «قانون قيصر» من قبل الكونغرس الأميركي في عام 2019، ودخوله حيز التنفيذ منتصف 2020، ليستهدف الكيانات -بما فيها غير الأميركية- والأفراد الذين يقدمون التمويل أو المساعدة للنظام السوري.
في تقرير نشر في 9 ديسمبر 2024، أشارت «كابيتال إكونوميكس» (Capital Economics) إلى أن الصراع في سوريا دمر اقتصادها، مقدرة انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة تزيد على 85% منذ 2011، إلى أقل من 9 مليارات دولار (بالأسعار الحالية عن سنة 2021)، كما دُمِّرَت البنية التحتية وفر الملايين من البلاد.
وأضاف التقرير أن إنتاج النفط السوري هبط من ذروته عند نحو 600 ألف برميل إلى أقل من 100 ألف برميل يومياً، مع تدمير جزء كبير من بنية البلاد النفطية.
ولفت التقرير إلى أنه حتى لو استقر الوضع السياسي في سوريا، فسوف يستغرق الأمر سنوات، إن لم يكن عقوداً، لإعادة البناء.
من شأن تحرير الأموال المصادرة أن يسهم في تحريك ركود الاقتصاد السوري المنهك، غير أنه رهين باتضاح الصورة حول شكل الحكم الجديد في سوريا «ما بعد الأسد»، والخطوات التي سيتخذها الغرب بناء عليه.
وتشي التجربة الليبية بأن الطريق طويل وشاق. فبعد مرور 13 عاماً على سقوط نظام معمر القذافي، لا تزال الحكومات المتعاقبة في ليبيا تكافح لاستعادة أصول البلاد المجمدة في الخارج، التي تبلغ نحو 200 مليار دولار موزعة على دول عدة، بحسب تصريحات لمسؤولين ليبيين.
ولم ترَ الهيئة الليبية للاستثمار بصيص نور إلا أخيراً، بعد أنباء عن قرب موافقة الأمم المتحدة على استعاد أصولها البالغة 70 مليار دولار بحلول نهاية العام.