لم تتردد تركيا للحظة في إبداء حماستها لأن تكون أول المستفيدين اقتصادياً من سقوط نظام الأسد في سوريا، وتحديداً من خلال مشروع خط لأنابيب الغاز يربط قطر بتركيا. لكن، ورغم تغير الظروف اليوم، قد تبدو هذه الحماسة متسرعة بسبب التحديات الكبيرة التي تواجه المشروع.
لم تكد تمضي ساعات على دخول قوات المعارضة المسلحة دمشق، حتى سارعت أنقرة إلى نفض الغبار عن ملف مشروع خط أنابيب الغاز الذي يفترض أن يربط قطر بأوروبا عبر تركيا، مروراً بالسعودية والأردن وسوريا، وهو المشروع الذي تعوّل عليه تركيا في تعزيز دورها كمركز حيوي للطاقة، لكنه تعثّر سابقاً بسبب معارضة النظام السوري له في 2009.
يوم الاثنين الموافق 9 ديسمبر الجاري، أي بعد يوم واحد فقط من سقوط النظام السوري، خرج وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار، ليتحدث عن إمكانية إعادة إحياء المشروع الذي يفترض أن يربط قطر بأوروبا عبر تركيا، مروراً بالسعودية والأردن وسوريا. وقال الوزير عقب اجتماع لمجلس الوزراء في العاصمة التركية، إن تنفيذ المشروع قد يصبح ممكناً «إذا حققت سوريا سلامتها واستقرارها».
وكالة الأنباء التركية الرسمية «الأناضول» التي نقلت تصريح الوزير، عادت ونشرت تقريراً بعنوان «مشروع نقل الغاز القطري عبر تركيا يعود إلى الواجهة»، ذكرت فيه على لسان باحثة تركية أنه «بعد تأسيس نظام مستقر في سوريا عقب الإطاحة بالأسد، يمكن القول إن المشروع لن يواجه عقبات سياسية في المنطقة إذا استمر الوضع الراهن».
على مر السنوات، ظهرت إلى العلن مشاريع عدة مرتبطة بالغاز تشمل المنطقة العربية، أحدها يتعلق باستغلال احتياطيات إيران الضخمة مروراً بالعراق وسوريا، وآخر يستهدف نقل الغاز المصري إلى أوروبا عبر سوريا وتركيا من خلال خط أنابيب الغاز العربي الموسع، فضلاً عن خط الأنابيب القطري التركي المزمع.
وفي وقت كشفت فيه الحرب الروسية الأوكرانية عن حاجة أوروبا الماسة إلى موارد غاز جديدة وغير بعيدة عن السوق الأوروبية، برزت مجدداً أهمية ربط حقل غاز الشمال القطري -الذي يعد أكبر مكمن للغاز في العالم- بسوق استهلاكية كبرى كأوروبا، وهو ما من شأنه أن يفتح آفاقاً متوسطة وطويلة الأجل لأمن إمدادات الطاقة.
تقوم فكرة مشروع خط الأنابيب القطري التركي الذي يبلغ طوله 1500 كيلومتر وتصل تكلفته إلى 10 مليارات دولار، على تدفق الغاز من حقل غاز الشمال القطري إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، على أن يصل إلى تركيا عبر كل من السعودية والأردن وسوريا. غير أن عجلة الخطة اصطدمت بعصا النظام السوري في عام 2009.
الموقف الرافض للنظام السابق، أُُرجع حينها إلى إيعاز من حليفته روسيا الراغبة في حماية مصالحها، باعتبار أنها كانت آنذاك أكبر مورد للغاز الطبيعي لأوروبا، وحريصة على ضمان استمرار الاعتماد الأوروبي على غازها.
انخفضت حصة الغاز الروسي ضمن واردات الاتحاد الأوروبي من أكثر من 40% في عام 2021 إلى أقل من 15% في عام 2023 (بما يشمل الغاز المسال). إلا أن الغاز القطري لا يزال يمثل 5% فقط من واردات التكتل الأوروبي، على الرغم من احتياطيات البلاد الهائلة، وفقاً لبيانات مجلس الاتحاد الأوروبي.
وتُقدّر احتياطيات قطر من الغاز الطبيعي بنحو 2000 تريليون قدم مكعبة، بحسب ما صرّح به في فبراير الماضي سعد الكعبي، وزير الدولة القطري لشؤون الطاقة.
في الوقت الراهن، يصل الغاز القطري إلى أوروبا في صورة شحنات غاز طبيعي مسال باهظة الثمن على متن ناقلات عملاقة. غير أن هذا الخيار الذي يعتمد إلى جانب أسطول الناقلات على عدد هائل من محطات التسييل وإعادة «التغويز»، يعد مكلفاً للغاية، فيما يتطلب وصول الغاز إلى الأسواق المستهدفة وقتاً طويلاً مقارنة بشبكة خطوط أنابيب الغاز الروسية الأوكرانية مثلاً، التي تتميز بقلة التعقيدات وانخفاض التكلفة.
وبالتالي، مشروع خط الأنابيب بين قطر وتركيا، من شأنه أن يُجنّب ناقلات الغاز الطبيعي المسال من قطر الرحلة الطويلة التي تقوم بها عبر قناة السويس أو حول القارة الإفريقية. وفيما تخضع سلاسل توريد الغاز الطبيعي المسال للاضطرابات الجيوسياسية وتقلبات الطلب العالمي، تبدو إمدادات خطوط الأنابيب المباشرة أكثر استقراراً.
بالنسبة إلى سوريا، ستوفّر رسوم العبور مصدراً للإيرادات، إلى جانب ما سيضيفه المشروع من استثمارات في البنية التحتية للطاقة في بلد يحتاج إلى موارد هائلة ومتنوعة لإعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد.
أما بالنسبة إلى تركيا، والتي لا تتمتع باحتياطيات كبيرة من الغاز، فقد كثفت جهودها في السنوات الأخيرة لإنشاء مركز يستقبل الغاز من الموردين، على غرار روسيا وأذربيجان وتركمانستان وإيران، بهدف إعادة تصديره إلى أسواق ثالثة.
يشير تقرير لـ«تشاتام هاوس» (Chatham House)، المؤسسة الفكرية اللندنية، إلى أن فرصة إعادة إحياء مشروع خط أنابيب الغاز ظهرت في وقت تبذل تركيا جهوداً كبيرة لترسيخ مكانتها كمركز رئيس للطاقة في المنطقة.
أضاف التقرير أن هذه الطموحات المتجدّدة، برزت بشكل واضح خلال «منتدى إسطنبول للطاقة»، الذي عقد الشهر الماضي بحضور ممثلين عن كبار منتجي الغاز، إلى جانب دول العبور والمستوردين من أوروبا الشرقية.
تعتبر تركيا أن لديها بالفعل بنية أساسية للطاقة يمكن الاستناد إليها، كخطّي أنابيب «بلو ستريم» و«ترك ستريم» اللذين ينقلان الغاز الروسي، وخط أنابيب الغاز عبر الأناضول الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، إلى جانب امتلاكها 5 خطوط أنابيب أخرى. هذه البنية، تسمح لتركيا بتقديم خيار أكثر جدوى تجارياً لمنتجي الغاز الإقليميين إلى الأسواق الأوروبية من بدائل الغاز الطبيعي المسال الحالية، وفق ما لفت إليه تقرير «تشاتام هاوس».
كما أن من شأن الطريق البري عبر سوريا أن يوفر بديلاً أقصر وأبسط من الناحية الفنية وأكثر فعالية من حيث التكلفة؛ وقد يقدم أيضاً فرصة مستقبلية للبنان، الذي بدأ أخيراً أعمال التنقيب البحرية ويفتقر إلى بنية تحتية للتصدير خاصة به.
لا شك في أن المشروع، دونه عقبات وتحديات كبيرة. قالت مجموعة «إنيرجي إنتليجنس» (Energy Intelligence Group) المتخصصة في معلومات الطاقة في تقرير، إن في مقدمة هذه التحديات «الاستقرار والأمن في سوريا»، وأيضاً «تحديات التمويل».
بحسب التقرير، فإن خط الأنابيب هذا قد يصبح «أصلاً عالقاً» مع تحوّل الاتحاد الأوروبي إلى الطاقة المتجددة. فعقود الغاز طويلة الأجل، والتي تعد حاسمة لدعم خطوط الأنابيب الرئيسة، لم تعد لها الأولوية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي تستهدف مبادراته تخفيضات حادة في الطلب على الغاز بحلول عام 2030.
مع ذلك، يشير التقرير إلى أن الاتحاد الأوروبي سيحتاج على الأرجح إلى مصادر بديلة عن الغاز، «على الأقل للعقد القادم».