تؤثر الأحداث الجيوسياسية بشكل كبير على سلاسل الإمداد العالمية، وينتقل هذا التأثير إلى أسعار السلع؛ وبالتالي على كيفية تعامل المستثمرين مع استراتيجيات الاستثمار الخاصة بهم.
ووفقاً لأحدث تقرير صادر عن مؤسسة "فيتش" للتصنيف الائتماني أسهمت الحروب الدائرة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، بالإضافة إلى الاستحقاقات الانتخابية في العديد من الدول، وارتفاع مستويات عدم اليقين التنظيمي المتعلقة بالموارد الطبيعية في مختلف الدول في ارتفاع أسعار السلع.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تقلبات كبيرة في أسعار السلع العالمية، الأمر الذي ينذر بخطر جسيم على المتداولين والمستثمرين. وبالنظر إلى تركّز إنتاج السلع حول الموارد الطبيعية، فإن التقلبات الشديدة في الأسعار الناجمة عن التوترات الجيوسياسية باتت أمراً محتملاً. وبالتالي، فإن البيئة الجيوسياسية قادرة على التأثير في مختلف جوانب قطاع السلع، بدءاً من أسعار النفط ووصولاً إلى توافر المواد الخام الضرورية.
نظراً لاعتماد العديد من الاقتصادات على إنتاج النفط وتجارته، يعدّ النفط سلعة عالمية بالغة الأهمية تستحق الرصد الدقيق. باعتباره المصدر الأساسي للطاقة للدول جميعها، فإن أسعار النفط تؤثر بشكل كبير على الناتج المحلي الإجمالي.
سوق النفط هو الأكثر تأثراً بالتوترات الجيوسياسية. غالباً ما تسبب هذه التوترات اضطرابات في الإمدادات، مما يؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار. يتجلى ذلك بوضوح في أزمة النفط.
عام 1973 عندما فرضت منظمة الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك) حظراً نفطياً على الولايات المتحدة ودول أخرى دعمت إسرائيل خلال حرب أكتوبر، أدى ذلك إلى تضاعف أسعار النفط أربعة أضعاف، ما نتج عنه تضخم شديد، ركود اقتصادي، وانهيار سوق الأسهم في العديد من الاقتصادات الغربية، كما سلط الضوء على هشاشة الاقتصادات المعتمدة على الطاقة، ودفع إلى التركيز على أمن الطاقة.
ومع ذلك، فإن العلاقة طويلة الأمد بين التطورات الجيوسياسية وأسعار النفط ليست مباشرة. ففي الآونة الأخيرة، ذكر البنك المركزي الأوروبي أن غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022 أدى إلى ارتفاع أسعار خام برنت بنسبة تقارب 30% خلال الأسبوعين الأولين، إلا أنها عادت إلى مستويات ما قبل الغزو بعد نحو ثمانية أسابيع. وبالمثل، ارتفعت أسعار خام برنت بنحو 4% بعد اندلاع الصراع في غزة في 7 أكتوبر 2023 قبل أن تستقر بعد ذلك.
تؤثر المخاطر الجيوسياسية، الناتجة عن الصراعات والإرهاب والقرصنة والهجمات الإلكترونية، بشكل مباشر على سلاسل التوريد العالمية والأعمال والتجارة. كما أظهرت الأبحاث أن الصراعات الجيوسياسية تهدد التعريفات الجمركية، تغير حجم واتجاه تدفقات التجارة، أو تتسبب في ارتفاع سريع لأسعار الوقود، مما يؤدي إلى زعزعة استقرار حركة النقل.
تمثل الأحداث الجيوسياسية عاملاً حاسماً في تحديد مسار أسعار السلع الأساسية، إذ تتجاوز تأثيراتها النفط لتشمل مجموعة واسعة من المنتجات. نظراً لصعوبة استبدال استهلاك هذه السلع على المدى القصير واعتماد العديد من الصناعات التحويلية والتكنولوجية عليها، فإن تداعيات عدم الاستقرار الجيوسياسي تكون بالغة الأثر.
تؤدي الصراعات المسلحة في المناطق الغنية بالمصادر الطبيعية إلى تعطيل سلاسل الإمداد بشكل كبير، مما يفاقم الندرة، ويزيد تقلب الأسعار. وتعكس الأزمة المستمرة في إفريقيا مثالاً واضحاً على ذلك، حيث أثرت في إمدادات المعادن النفيسة المستخدمة في صناعة الإلكترونيات وغيرها من التطبيقات الصناعية.
كما يمتد تأثير التوترات الجيوسياسية إلى أنظمة الغذاء العالمية. الأوضاع غير المستقرة الناتجة عن الصراعات تؤدي إلى تقلبات حادة في الأسعار. ويزداد الوضع سوءاً بتأثر واردات وصادرات الغذاء، مما يدفع بأسعار المواد الغذائية إلى الارتفاع، ويعمق أزمة تكلفة المعيشة العالمية.
وقد تجلى ذلك بوضوح في الأزمة الناجمة عن الصراع الروسي الأوكراني، حيث أدى إلى شلل في إمدادات القمح وغيره من المنتجات الزراعية، مما تسبب في ارتفاع أسعار القمح بنسبة 50% وأثار مخاوف بشأن الأمن الغذائي العالمي.
تفرض البيئة الجيوسياسية المتقلبة والعصية على التوقع تحديات كبيرة على المستثمرين، مما يستدعي اعتماد استراتيجيات فعالة لتخفيف المخاطر. ومن أهم هذه الاستراتيجيات تنويع المحفظة الاستثمارية، وهو ما أكده الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، هاري ماركويتز، بقوله: "التنويع هو الاستثمار المجاني الوحيد".
إذ يُسهم توزيع الاستثمارات على فئات الأصول والقطاعات والمناطق الجغرافية المختلفة في تقليل التعرض لأي خطر مفرد. وبالتالي، فإن تأثير الأحداث الجيوسياسية الكبرى على المستثمر يتأثر بشكل أقل في حال امتلاك محفظة متنوعة.
تعد إدارة المخاطر باستخدام أدوات التحوط عنصراً أساسياً في استراتيجيات الاستثمار. الأدوات المالية مثل الخيارات والعقود الآجلة والعقود المبادلة توفر حماية ضد تقلبات الأسعار، لا سيما في مجال مخاطر العملات المرتبطة بالأحداث الجيوسياسية.
على سبيل المثال، يمكن للشركات استخدام العقود الآجلة للعملات لتثبيت أسعار الصرف، مما يحد من آثار التقلبات النقدية. تماماً كالتنويع، تهدف هذه الأدوات إلى تخفيف مخاطر تقلبات أسعار السوق الخارجية. ومع تزايد اهتمام المستثمرين بتأمين أسعار السلع الأساسية في أوقات انخفاض الأسواق، يبرز التركيز على الحد من التعرض للمخاطر، وهو ما توفره أدوات التحوط مثل العقود الآجلة والعقود الخيارية.
كما يمكن للمستثمرين النظر في الاستثمار في الأصول الآمنة. تاريخياً، حيث يعد الذهب أحد الأصول الآمنة خلال فترات عدم الاستقرار الجيوسياسي. إذ يوفر الاستثمار في الذهب أو المعادن الثمينة الأخرى حماية ضد تقلبات السوق، بالإضافة إلى كونه تحوطاً ضد التضخم.
وساهم الوضع الآمن للذهب بشكل كبير في ارتفاع سعره مؤخراً على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية. كما يمكن النظر في سندات الحكومات المستقرة، مثل سندات الخزانة الأميركية، والتي تعد بشكل عام استثمارات ذات مخاطر منخفضة خلال فترات التوتر الجيوسياسي.
يعتمد مديرو المخاطر المعاصرون أيضاً على تخطيط السيناريوهات، حيث يتم إجراء اختبارات الضغط لتقييم تأثير مختلف السيناريوهات الجيوسياسية المحتملة على الأعمال أو المحافظ الاستثمارية. يساعد هذا في تحديد نقاط الضعف ووضع خطط طوارئ لمواجهة التحديات المختلفة.
من الضروري أن يتحلى المستثمرون بمنظور طويل الأجل، إذ إن تقلبات السوق قصيرة المدى تعد نتيجة طبيعية للتوترات الجيوسياسية. وبالتالي، فإن التركيز على الاتجاهات طويلة الأجل والمناطق المستقرة يمكن أن يؤدي إلى تحقيق عوائد أكثر استقراراً.
يعد فهم تأثير التوترات الجيوسياسية على أسواق السلع العالمية أمراً بالغ الأهمية لقطاعي الأعمال والمال. ويتطلب الأمر من المستثمرين متابعة الأحداث الجيوسياسية المتغيرة بسرعة واتخاذ إجراءات مرنة. فمن خلال تطبيق استراتيجيات مثل التنويع، وإدارة المخاطر، والتركيز على الاستثمار طويل الأجل، يمكن للمستثمرين إدارة تحديات السوق وحماية استثماراتهم.