التنويع أبرز الأدوات التي يعتمدها المستثمرون للتحوط من التوترات
في عالم الاستثمار، تشكل الجغرافيا السياسية مصدراً كبيراً لعدم اليقين والتقلب، إذ قد تؤدي التوترات والصراعات إلى تغييرات جذرية في الأسواق المالية، سواء على المدى القصير أو الطويل.
ومع ذلك، يبدو أن المستثمرين غالباً ما يقلّلون من أهمية هذه الأحداث، أو يتجاهلونها تماماً عند اتخاذ قراراتهم الاستثمارية. والسؤال هنا: لماذا يحدث ذلك؟ وكيف تستجيب الأسواق للأحداث الجيوسياسية الكبرى؟.
تعتبر الأسواق المالية غير فعالة نسبياً في قراءة الأحداث الجيوسياسية بشكل دقيق. ويرجع ذلك إلى طبيعة هذه الأحداث التي غالباً ما تكون مفاجئة وغير متوقعة. على سبيل المثال، لم يكن العديد من المستثمرين يتوقع إعلان الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية أو سقوط النظام السوري.
ورغم جسامة هذه الأحداث، لم تكن هناك تحركات كبيرة في الأسواق المالية الرئيسة، مما يشير إلى عدم استعداد المستثمرين أو عدم اكتراثهم لتأثيرات هذه الأحداث.
أحد الأسباب وراء هذا التجاهل هو أن الأسواق تعودت التكيف بسرعة مع التقلبات الجيوسياسية. فعلى سبيل المثال، في منطقة الشرق الأوسط، لم تعد التوترات السياسية تؤدي إلى تغييرات طويلة الأمد في أسعار النفط، إلا إذا كانت هناك أخطار حقيقية لتعطيل الإمدادات على نطاق واسع.
وفي حالة إسرائيل وحربها مع حماس، شهدت الأسواق الإسرائيلية تبايناً طفيفاً فقط، حيث إن الحرب لم تؤثر بشكل مباشر على المراكز الاقتصادية الرئيسة.
يميل المستثمرون إلى التركيز على العوامل الاقتصادية الأساسية عند اتخاذ قراراتهم الاستثمارية، مثل السياسات النقدية للبنوك المركزية، وأسعار الفائدة، ومعدلات النمو الاقتصادي.
هذه العوامل، في نظرهم، هي التي تشكل المحركات الرئيسة للأسواق، وليس الأحداث الجيوسياسية التي تعتبرها الأسواق مؤقتة بطبيعتها.
على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، يركز المستثمرون على قدرة الاقتصاد الأميركي على التعافي واستقراره، متجاهلين العديد من المخاطر الجيوسياسية الخارجية.
وتُظهر بيانات حديثة أن التركيز الأكبر يذهب إلى أداء الشركات الأميركية الكبرى التي تعمل داخل الولايات المتحدة وخارجها، ما يجعل الأسواق أقل تأثراً بالأحداث الجيوسياسية التي لا تؤثر مباشرة على الاقتصاد الأميركي.
يعد التنويع أحد أبرز الأدوات التي يعتمد عليها المستثمرون للتحوط من تأثير الأحداث الجيوسياسية. من خلال توزيع الأصول عبر قطاعات متعددة ومناطق جغرافية مختلفة، يمكن تقليل تأثير حدث جيوسياسي معين على المحفظة الاستثمارية ككلّ.
على سبيل المثال، إذا تأثرت الأسواق الآسيوية بسبب توترات سياسية في كوريا الجنوبية أو الصين، فإن المستثمرين قد يعوضون هذه الخسائر من خلال استثماراتهم في الأسواق الأميركية أو الأوروبية الأكثر استقراراً.
هذا النهج يُظهر أيضاً ثقة المستثمرين في استقرار الأسواق الكبرى، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، والتي غالباً ما تكون أقل عرضة للصدمات الجيوسياسية مقارنة بالأسواق الناشئة.
خلال عام 2024، شهد العالم سلسلة من الأحداث الجيوسياسية المهمة. ومن أبرز هذه الأحداث التوترات في أوكرانيا، وسقوط النظام السوري، والأحكام العرفية في كوريا الجنوبية. ومع ذلك، لم يكن لهذه الأحداث تأثير كبير على الأسواق المالية العالمية.
رغم أن سقوط النظام السوري يُعتبر تحولاً جيوسياسياً كبيراً، لم تتأثر الأسواق بشكل كبير. السبب في ذلك يعود إلى كون سوريا لاعباً صغيراً في الاقتصاد العالمي. وفي حين أن هذا الحدث قد يؤدي إلى تداعيات على المدى الطويل إذا تطورت الأوضاع في المنطقة، فإن المستثمرين لم يروا ضرورة للاستجابة الفورية.
تُعتبر كوريا الجنوبية أحد الاقتصادات الكبرى في آسيا، ومع ذلك، شهد مؤشر “كوسبي” انخفاضاً طفيفاً بنسبة 3% فقط بعد إعلان الأحكام العرفية. ويفسر ذلك بأن الأسواق الكورية معتادة على التوترات السياسية المحلية، حيث إن الرئاسة في كوريا غالباً ما تواجه تحديات سياسية داخلية.
بالنظر إلى أوكرانيا، فإن الأسواق الأوروبية قد تستفيد بشكل كبير إذا تم الوصول إلى اتفاق سلام. إعادة إعمار أوكرانيا قد توفر فرصة استثمارية ضخمة، ويمكن أن يكون لذلك تأثير إيجابي كبير على الأسواق الأوروبية التي تُعتبر حالياً مقومة بأقل من قيمتها من قبل المستثمرين العالميين.
لطالما كان سوق النفط المكان الأول الذي يظهر فيه تأثير الأحداث الجيوسياسية، خاصة تلك المرتبطة بالشرق الأوسط وروسيا. ومع ذلك، يبدو أن تأثير التوترات الجيوسياسية على أسعار النفط قد تراجع في السنوات الأخيرة.
ويرجع ذلك إلى أن الولايات المتحدة أصبحت منتجاً رئيساً للنفط بفضل طفرة النفط الصخري، مما قلل من اعتمادها على الإمدادات الخارجية. وبالتالي، حتى لو تأثرت الإمدادات العالمية، فإن الأسواق تكون أقل عرضة للاضطراب.
ومع ذلك، إذا حدثت تصعيدات كبيرة في الشرق الأوسط قد تؤدي إلى تعطل واسع للإنتاج، فإن ذلك قد يُحدث قفزة كبيرة في الأسعار، مما قد يدفع الأسواق للاستجابة بقوة.
بينما يبدو أن الأسواق تتجاهل العديد من الأحداث الجيوسياسية الحالية، إلا أن هناك مخاطر مستقبلية قد تكون ذات تأثير كبير على الأسواق المالية العالمية. ومن أبرز هذه المخاطر ما يلي:
تايوان وصناعة الرقائق:
تشكل تايوان مركزاً رئيساً لصناعة أشباه الموصلات، وهي صناعة حيوية للاقتصاد العالمي، خاصة في ظل الاعتماد الكبير على الشرائح الإلكترونية في التكنولوجيا الحديثة.
أي تصعيد عسكري أو سياسي بين الصين وتايوان قد يؤدي إلى تعطيل كبير في الإمدادات العالمية للرقائق، مما سيلحق أضراراً بشركات التكنولوجيا الكبرى مثل «أبل» (Apple) و«إنفيديا» (NVIDIA) وغيرهما. الأسواق حتى الآن تتجاهل هذه المخاطر، لكنها قد تتفاعل بشكل كبير إذا تصاعدت التوترات في هذه المنطقة.
العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا
عودة النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا قد تؤدي إلى فرض تعريفات جمركية جديدة على الواردات والصادرات بين الطرفين.
الإدارة الأميركية المقبلة، وخاصة إذا استمرت التوجهات الشعبوية، قد تزيد الضغط على أوروبا. هذا النوع من التوتر قد يضر بالشركات متعددة الجنسيات، ويؤثر سلباً على التجارة والاستثمار بين أكبر أسواق العالم.
رغم أن إعادة إعمار أوكرانيا يُمكن أن تشكل فرصة إيجابية للأسواق الأوروبية على المدى الطويل، إلا أن تحقيق ذلك يتطلب استقراراً سياسياً واقتصادياً في المنطقة.
وفي حال تصاعد النزاع مجدداً، قد ينعكس ذلك سلباً على الأسواق، خاصة مع استمرار الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية البديلة.
مخاطر الشرق الأوسط الجيوسياسية
لا يزال الشرق الأوسط أحد أكثر المناطق تأثراً بالأحداث الجيوسياسية التي يمكن أن تحمل تأثيرات عميقة على الأسواق العالمية. ومن أبرز المخاطر التي يجب مراقبتها التوتر بين إسرائيل وإيران.
التوتر المستمر بين إسرائيل وإيران، سواء فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني أو الدعم الإيراني للجماعات المسلحة في لبنان وغزة، يمكن أن يؤدي إلى تصعيد عسكري واسع النطاق.
إذا امتد هذا النزاع إلى دول الجوار أو أثر في مضيق هرمز، وهو شريان رئيس لتصدير النفط العالمي، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط وتقلب الأسواق.
التوترات وانعكاسها على أمن الخليج
سقوط النظام السوري في عام 2024 لم يؤدِ إلى استقرار المنطقة، بل فتح الباب أمام إعادة تشكيل التحالفات والقوى داخل سوريا. إذا تصاعدت المواجهات بين الفصائل المختلفة، أو تدخلت قوى إقليمية مثل تركيا أو إيران بشكل أكبر، فقد يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار المنطقة.
يستمر النزاع في اليمن كأحد أكثر الصراعات تعقيداً في المنطقة. امتداد القتال أو زيادة الهجمات على السفن وتهديد ممرات البحر الأحمر قد يؤثر في إنتاج النفط وأسعاره، وهو ما يمكن أن يزعزع استقرار الأسواق العالمية.
العراق، أحد أكبر منتجي النفط في أوبك، يواجه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة. أي تصاعد في الاضطرابات الداخلية أو التدخلات الخارجية قد يؤدي إلى تعطيل الإنتاج النفطي، مما يؤثر في أسواق النفط العالمية.
الخليج العربي هو مركز رئيس لإنتاج وتصدير النفط والغاز العالمي. أي تهديد لأمن الملاحة في الخليج، سواء بسبب مواجهات عسكرية أو هجمات إرهابية على ناقلات النفط، قد يسبب قفزات حادة في أسعار الطاقة. التحركات العسكرية الإيرانية أو التوترات مع القوات الأميركية في المنطقة تمثل مخاطر كبيرة.
رغم أن الأسواق العالمية قد تبدو غير مبالية بالأحداث الجيوسياسية في الوقت الحالي، إلا أن التغيرات السريعة والمفاجئة في هذه المناطق يمكن أن تسبب تحولات حادة في الأسواق.
لذلك من الضروري أن يولي المستثمرون اهتماماً أكبر للتطورات في الشرق الأوسط، خاصة تلك المتعلقة بالطاقة والأمن الإقليمي، لأنها قد تكون ذات تأثير مباشر على الأسواق المالية العالمية.
في النهاية، يمكن القول إن الأسواق تتجاهل الأحداث الجيوسياسية، لأنها تركز بشكل أكبر على العوامل الاقتصادية الأساسية، وتعتبر أن معظم الأحداث الجيوسياسية تأثيرها مؤقت.
ومع ذلك، يظل من الضروري للمستثمرين مراقبة التطورات العالمية بعناية، حيث إن بعض الأحداث الجيوسياسية قد تحمل معها فرصاً استثمارية كبيرة أو مخاطر غير متوقعة. فكما هو الحال في الاستثمار، «المخاطر هي الوجه الآخر للفرص».